انقطاع الكهرباء في أوروبا: العتمة التي كشفت هشاشة الشبكات الكهربائية الحديثة

عرب وعالم 29 نيسان, 2025

شهدت أوروبا، أمس الاثنين، واحدة من أعنف حالات انقطاع الكهرباء في تاريخها الحديث، حين غرقت شبه الجزيرة الإيبيرية —أي إسبانيا والبرتغال وأجزاء من فرنسا— في ظلامٍ مفاجئٍ امتدّ لساعاتٍ طويلةٍ، كاشفًا عن هشاشةٍ مقلقةٍ في بنية شبكات الكهرباء الغربية، على الرَّغم من التقدّم التقني والاعتماد الواسع على مصادر الطاقة المتجدّدة. وعلى الرَّغم من نفي السلطات أن يكون هجوم إلكتروني وراء الحادث، إلّا أنّ التساؤلات لم تتوقّف حول الأسباب، ومدى قدرة شبكات الطاقة الحالية على تحمّل اختلالاتٍ مفاجئة.

من أين بدأت الأزمة؟

في تمام الساعة 12:30 ظهرًا، انقطع التيار الكهربائي عن معظم أنحاء إسبانيا والبرتغال. وشمل مدنًا كبرى مثل مدريد، برشلونة، ولشبونة. وبلغت ذروة الأزمة عندما أعلنت شركة تشغيل شبكة الكهرباء الإسبانية “Red Eléctrica” عن خسارة مفاجئة بلغت 15 غيغاواط من الطاقة الإنتاجية في خمس ثوانٍ فقط، أي ما يعادل 60% من الطلب الوطني على الكهرباء.

وأوضح مدير العمليات في الشركة إدواردو برييتو، أنّ سبب الانقطاع يعود إلى “اهتزازٍ قويّ جدًا في الشبكة الكهربائية”، ما أدّى إلى انفصال شبكة إسبانيا عن الرّبط الأوروبي عبر جبال البرانس (البيرينيه)، وانهار النظام بأكمله بعد ذلك بشكلٍ متسلسل. وفيما استُبعدت فرضية الهجوم السيبراني أو الظواهر الجوية، رجّح الخبراء أن تكون مشكلة متعلقة بمصادر الطاقة الشمسية وتقلّبات الأحمال نتيجةً للاعتماد المفرط على الطاقة المتجدّدة، خاصةً في جنوب إسبانيا.

الطاقة المتجدّدة: فرصة بيئية أم خطر شبكي؟

إسبانيا تعدُّ من أبرز روّاد أوروبا في مجال الطاقة المتجدّدة، حيث تجاوزت نسبة الطاقة النظيفة —وخصوصًا الشمسية والرياح— 56% من إنتاج الكهرباء في عام 2024. لكنّ هذا الاعتماد الكثيف، الذي ساهم في خفض أسعار الكهرباء بنسبة 20%، يُنظر إليه الآن بعيْن الحذر، نظرًا لافتقاره إلى “القصور الذاتي الشبكي” الذي توفّره المحطات التقليدية كالغاز والفحم والماء.

تفتقر الطاقة الشمسية والرياح إلى القدرة على تثبيت التردّد الشبكي عند حدوث اضطرابات، مما يجعل الشبكة أكثر عرضةً للانهيار السريع عند حصول اختلالات في التوزيع أو التوليد. وفي يوم الحادث، أشارت تقارير إلى أن 60% من الكهرباء كانت تأتي من الطاقة الشمسية فقط، ما فاقم التذبذبات الشبكيّة.

الانعزال الطاقوي لشبه الجزيرة الإيبيرية

من أبرز أسباب هشاشة الشبكة الإسبانية البرتغالية هو العزل الجغرافي الطاقوي. فشبه الجزيرة الإيبيرية تُعتبر “جزيرة طاقية”، حيث لا تتجاوز قدرة الربط مع بقية أوروبا 6% فقط، في حين تسعى المفوضية الأوروبية لرفعها إلى 15% بحلول عام 2030. هذا الانعزال حدّ من قدرة إسبانيا والبرتغال على استيراد طاقة مستقرّة من فرنسا أو دول أخرى عند وقوع الأزمة.

وبالفعل، قدّمت فرنسا والمغرب دعمًا موقتًا من الطاقة لتأمين جزءٍ من احتياجات الشمال والجنوب الإسباني في تلك الساعات الحرجة. إلّا أنّ بطء إعادة التيار كشف عن محدودية الخيارات أمام دولٍ تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على التجديد ولكنّها غير مترابطة فعليًا مع جيرانها.

الجانب المجتمعي: عودة إلى ما قبل الحداثة؟

على الرَّغم من غياب أي حوادث أمنية كبرى، إلّا أنّ الانقطاع شلّ الحياة اليومية في العواصم والمدن الكبرى. توقفت المتروهات، تعطلت إشارات السير، أُغلقت المطارات، وتوقف عمل آلاف المصانع والمتاجر. وتحوّلت مدريد وبرشلونة إلى مشاهد سوريالية من الفوضى والهدوء معًا: أطفال يلعبون في الشوارع، طوابير على عربات المثلجات، وعائلات تتنقل بلا إنترنت أو مركبات.

لكن بالنسبة للمسافرين، والأشخاص المحاصرين في المصاعد، ومرضى المستشفيات، لم يكن الانقطاع نزهةً، بل حالة طوارئ حقيقية. أكثر من 35 ألف مسافر تقطّعت بهم السبل في محطات القطارات، وبعضهم قضى ليلته على الأرض أو في صالات الاحتفالات الموقتة. وأعلنت السلطات الإسبانية حالة طوارئ في عدّة أقاليم، مع نشر أكثر من 30 ألف عنصر شرطة لتأمين الخدمات الحيوية.

فرنسا: جاهزية نسبية وصدمة محدودة

على الرَّغم من تأثّر بعض المناطق الفرنسية الحدودية بالانقطاع، إلّا أنّ شبكة الكهرباء الفرنسية، المعتمدة بشكل أساسي على الطاقة النووية (حوالي 70%)، استطاعت استعادة التوازن بسرعة. وأكد وزير الصناعة الفرنسي أن البنية الفرنسية أكثر مقاومةً للأعطال، لكن الحدث كشف مدى تداخل الشبكات الأوروبية، بحيث يمكن لانهيار في دولة أن يمتدّ إلى أخرى، حتى لو كانت أكثر استقرارًا.

مقارنة بأوروبا الشرقية: دروس من الصمود

في المقابل، أظهرت دول أوروبا الشرقية كأوكرانيا، ورومانيا، وبلغاريا مرونةً ملفتةً في التعامل مع انقطاعات الكهرباء. فهذه الدول، التي اعتادت على أزمات طاقة خلال العقود الماضية، طورت آليات مجتمعية وتقنية للتعايش مع غياب التيار، عبر اعتماد واسع على المولدات، أنظمة البطاريات، والطاقة اللامركزية.

أوكرانيا، على سبيل المثال، واجهت منذ عام 2022 هجمات ممنهجة من روسيا على بنيتها التحتية، ومع ذلك حافظت على استقرار نسبي بفضل التجهيزات الميدانية والتدريب المجتمعي. وفي رسالة تضامن مع إسبانيا والبرتغال، عرض وزير الطاقة الأوكراني نقل “الخبرات المكتسبة تحت القصف” إلى الدول المتضررة.

أين تذهب أوروبا؟

تُعدّ أزمة 28 نيسان 2025 جرس إنذارٍ حقيقيّ لقارةٍ تعتقد أنها تجاوزت زمن انقطاع الكهرباء. صحيح أن الطاقة المتجدّدة تشكل أملًا بيئيًا واقتصاديًا، لكنّها تتطلب بنى تحتية أكثر ذكاءً وربطًا وتخزينًا للطاقة. كما أنّ التجارب في أوروبا الشرقية تؤكّد أن التكيّف المجتمعي والتخطيط للطوارئ لا يقلّ أهميةً عن التطور التقني.

المفارقة أن هذه الأزمة، على الرغم من قسوتها، قد تسهم في إعادة التفكير في فلسفة إدارة الطاقة: من التركيز على الإنتاج فقط إلى التفكير في المرونة، الربط، التخزين، ووعي المجتمع.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us