شيزوفرينيا التيار البرتقالي: رجموا السنيورة وفعلوا الأسوأ
كتبت نوال الأشقر لـ “هنا لبنان”:
اعتمد التيار الوطني الحر منذ عودة رئيسه من المنفى الباريسي عام 2005 تسويقًا سياسيّا قائمًا على مرتكزين، الأول شعار “مكافحة فساد المنظومة السياسيّة على مدى ثلاثين عامًا” والثاني شعار “تحصيل حقوق المسيحيين”. استثمر الشعارين أفضل استثمار، وخاض على أساسهما كلّ حملاته الانتخابية، وحصد بموجبهما نسبةً لا يُستهان بها من الشارع المسيحي، أكسبته أكبر كتلة مسيحيّة، مدعومًا بتحالف مار مخايل مع حزب الله، الذي غطّى تعطيله لجلسات انتخاب رئيس للجمهورية على مدى عامين ونصف، إلى حين إنجاز التسوية الرئاسية وانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا.
بقي “التيار البرتقالي” إلى يومنا متمسّكًا بالشعار الأحب إليه أي “مكافحة الفساد”، على رغم دخوله شريكًا قويًّا في الفساد الأعظم، وليس أدلّ على ذلك سوى المليارات التي أُهدرت على قطاع الكهرباء خلال فترة توليه وزارة الطاقة، وصفقات البواخر التركية، ورفض عروض شركة سيمنس والبنك الكويتي لتمويل إنشاء معامل للكهرباء، حتّى أوصلتنا سياسته الكهربائية هذه إلى ساعة كهرباء واحدة في الأربع وعشرين ساعة، فضلًا عن إهداره مليارات الدولارات في مشاريع السدود الفاشلة، وتمسّكه بها متحدّيًا كلّ الدراسات التي أكّدت عدم جدوى السدود.
“الإبراء المستحيل” شكّل أقوى الحملات الإعلامية الناجحة التي خاضها “التيار الوطني الحر” ضدّ “تيار المستقبل” وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، متّهمًا الأخير بإنفاق ما يعادل 11 مليار دولار من خارج الموازنات، وهي قيمة سلف الخزينة التي أنفقت بموجبها الحكوماتُ اللبنانية خارج إطار موازنة العام 2005، حتّى باتت عبارة “وينن الـ 11 مليار” تلاحق السنيورة في كلّ مكان وزمان. بصرف النظر عن إبراء التيار الذي انقلب من مستحيل إلى ممكن مع تبنّي الرئيس سعد الحريري ترشيح عون للرئاسة، إلّا أنّ ما يحصل في العهد الرئاسي الحالي على مستوى المالية العامة والإنفاق، يتجاوز ما كان يحصل من إنفاق غير مقونن في حكومة السنيورة. بحيث انتقل الإنفاق بلا قانون إلى إنفاق بلا رصيد. كيف ذلك؟
يشير الخبير الاقتصادي الدكتور بلال علامة في حديثٍ لـ “هنا لبنان” إلى خطورة النهج المعتمد في تمويل نفقات الدولة والرواتب والزيادات، من خلال مراسيم يوقّعها رئيس الجمهورية لفتح اعتماد استثنائي في الموازنة، بسبب عدم إقرار مشروع الموازنة. بطبيعة الحال يمارس الرئيس صلاحياته المنصوص عنها في الدستور، والتي تقول أنّه “استثناءً على قاعدة عدم جواز فتح اعتماد استثنائي إلا بقانون خاص، لرئيس الجمهورية إذا دعت ظروف طارئة لنفقات مستعجلة أن يتخذ مرسوماً بناءً على قرار صادر عن مجلس الوزراء بفتح اعتمادات استثنائية. ويجب أن تُعرض هذه التدابير على موافقة المجلس في أوّل عقد يلتئم فيه بعد ذلك”. لكن المعضلة تكمن بأنّ المراسيم هذه تنصّ على فتح اعتمادات من احتياط الموازنة، علمًا أنّ هذا الاحتياط غير موجود ويوازي صفرًا، أي لا أموال في الخزينة لتغطية نفقات المراسيم الموقّعة من قبل الرئيس. إذًا من أين سوف يأتون بالمال لتمويل النفقات المصروفة للمدارس والمساعدات وغيرها من المصاريف؟
“هنا تكمن الكارثة التي من شأنها أن تعمّق الفجوة المالية في البلد”. يقول علامة “فإذا كانت الأموال ستأتي من خلال طباعة المزيد من الليرة، سنكون أمام سيناريو خطير يؤدي إلى نتائج كارثية في البلد على مستوى الكتلة النقدية، التي شهدت ارتفاعًا غير مسبوق، بلغ 10 آلاف مليار بغضون عشرة أيام فقط، وهو رقم خيالي”.
أضاف علامة “في الماضي صوّبوا على الإنفاق الذي حصل من خارج الموازنة، غير المقونن في المجلس النيابي، واتهموا فريقًا سياسيًّا بأنّه نهب المال العام وأهدره، وما يقومون به اليوم أسوأ، بحيث ينفقون أموالًا مقوننة، ولكن لا اعتمادات ماليّة حقيقيّة لها، وهذا بحدّ ذاته يشكّل مخالفة لقانون النقد والتسليف. إذ لا يجوز عقد نفقات، اعتماداتها غير متوفرة. وليخبرونا من أين سوف يموّلون هذه الاستحقاقات؟ الحل لوحيد المتاح أمامهم هو طبع العملة، الأمر الذي سيفاقم من التضخم المفرط، خصوصًا أنّنا وصلنا إلى انكماش كبير، من خلال متطلّبات هائلة تقابلها إيرادات ضعيفة، انخفضت بشكل كبير جرّاء عدم القدرة على تحصيل الضرائب”.
يلفت علامة إلى مستحقّات كبيرة للوزارات والإدارات تقدّر بمئات المليارات، وجب تسديدها بنهاية العام الحالي “حجم هذه الاستحقاقات يوازي رقمًا مخيفًا بحق الخزينة اللبنانية، وبظل عدم وجود إيرادات سنكون أمام فجوة مالية هائلة، وهنا لا يكفي إصدار قانون لتغطيتها بغياب الأموال، وإلّا نكون أمام تغطية السماوات بالقبوات. كما أنّ هذا النهج يؤسّس لأزمة ماليّة أكبر في المستقبل”.
ذاهبون إلى تسييل الذهب؟
هذه السياسة تقودنا إلى مؤشر مالي أقلّ ما يقال فيه أنّه أسود، بدأت مؤشراته تتبلور شيئًا فشيئًا في العملية الاقتصادية، وفق مقاربة علامة، ولعّل ما قاله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يصب في هذا السياق، بحيث استخدم للمرة الثانية عبارة التوظيفات الإلزاميّة وليس الاحتياط الإلزامي، وهذا يعني أنّ هذه الأموال، ومن ضمنها حقوق السحب الخاصة بلبنان، ليست موجودة في خزائن المصرف المركزي بل مستعملة في مكان ما، بالتالي ليس هناك من عملات أجنبية. بالمقابل بدأ الحديث عن أنّ خطة التعافي مع صندوق النقد ستقدّم بأحسن الأحوال 6 أو 7 مليار دولار مجزّأة على سنوات، هذا إذا حصل لبنان على أعلى مساهمة. بظل هذا الواقع الحرج يحكى همسًا عن استعمال جزء من الذهب ورهنه وتوظيفه واستعمال الأموال في لعبة شراء الوقت، وهذا خطر جدًا.
بالمحصّلة، شنّوا أعنف هجماتهم على الإنفاق من خارج الموازنة في زمن غيرهم، وعندما حان زمنهم، لم يقتصر الأمر على ذلك بل أنفقوا من دون رصيد، ومن خلال طبع كميّات إضافية من العملة، والنتائج المدمّرة تظهر في تضخّم يأكل ما تبقى من الليرة، ويوسّع كلّ يوم دائرة فقراء لبنان في عهد الرئيس القوي.