الإدارات والمؤسّسات العامّة وجهٌ لفشل الدولةِ اللّبنانيّة!
كتب أنطوني الغبيرة لـ “هنا لبنان”:
يُجمِع الجميع اليوم أنّ الانهيار الاقتصاديّ الّذي يصيب بلاد الأرز هو نتيجة سياساتٍ اتُّبعت منذ سنواتٍ طويلةٍ حوّلت لُبنان من سويسرا الشرق إلى ماليزيا جديدة. فَلو أدركت أو توقّعت الأجيال السابقة بأنّ مستقبل ذاك الوطن الأخضر سيصل إلى ما هو عليه اليوم، ربّما لكانت هجرته وهاجرت منه لتحافظ على أحفادها، أبناء هذا الجيل الذين يُظلمون في كلّ يومٍ بسبب سوء إدارة سياسيّي لبنان.
الاهتراء الذي طال النظام السياسيّ ترافق مع اهتراءٍ لإدارات الدولة ومؤسّساتها؛ ولم تعد الأصوات والمُطالبات تكفي لترميم الهيكل لأنّ المشكلة الأساسيّة اليوم هي ليست بالمباني فقط، إنّما بالبشر أي ببعض الموظّفين الذين يقبلون الرشوة ويضعون مصلحتهم الخاصّة على حساب مصلحة الدّولة، الأمر الذي أوصلنا إلى تغلغل الفساد الإداري وتفشّيه!
فكيف ينعكس فشل الدولة في مؤسساتها وإداراتها؟
عندما نعرّف عن دولةٍ ما وإداراتها، يُخيّل إلينا تميّزٌ في الشّكل الهندسيّ للمباني، غير أنّ الواقع المرير يُظهر أنّ المباني الإداريّة التي بمعظمها ما زالت تُشغّل منذ نصف القرن الماضي أصبحت مهترئةً ولا تتماشى مع التطوّر الحاصل. فالبُنى التحتيّة في مباني الدّولة لا تستطيع مواكبة التقدّم التكنولوجيّ. فبشكلٍ عام، لا يوجد مُديريّاتٌ ولا مؤسّساتٌ ولا إداراتٌ عامّةٌ حديثة.
ولا ننسى أنّ الإدارات والمؤسسات الرسميّة لا تستطيع القيام بعملها بشكلٍ منتظم، كونه لا يوجد محروقاتٌ لتشغيل المولّد الكهربائيّ ممّا يُعيق عمل الموظّفين، ناهيك عن غياب المحروقات لمركبات الدولة للقيام بالمهمّات، كعدم استطاعة تأمين الاعتماد الكافي لتمويل المحروقات التابعة للدفاع المدني ولا يستطيع بعض موظّفي وزارة الاقتصاد القيام برقابةٍ على مُختلف أرجاء الوطن بسبب غياب المحروقات مثلاً…
بالإضافة إلى التقشّف الذي يحصل اليوم داخل دوائر النفوس وعدم استطاعتهم تأمين الأوراق لطباعة إخراجات القيد…
غير أنّه دخلت بالعادات اللّبنانيّة تحفيز الأهل لأبنائهم للتقدّم لوظيفةٍ شاغرةٍ داخل سلك الدولة وذلك لضمان مستقبلهم. لكن الوقت كان كفيلاً بإدخال السياسة والتبعيّة الحزبيّة بموضوع التوظيف. فأصبحت المُحاصصة أساس التوظيف بغضّ النظر عن أيّ فئةٍ من الفئات الخمس الموجودة بالدولة.
نستطيع تطبيق القول “لم تتدخّل السياسة بشيءٍ إلاّ وأفسدته”. فالتوظيف على أساس الانتماء وليس على أساس الكفاءة لا يُنتج سوى الخمول وعدم المسؤوليّة بالإضافة إلى ضعف الإنتاجيّة.
موظّفو القطاع العام ينقسمون إلى جزأين، لطالما كان هناك جزءٌ مستأثرٌ بمركزه ويتحكّم بالمواطن لدرجة أنّ هذا النوع من الموظّفين من خلال تصرفاتهم وصلوا إلى إذلال المواطن عند المُطالبة بأبسط حقوقه. هذا إذا تكلّمنا فقط عن طريقة التعاطي مع الآخر ولم نتطرّق إلى موضوع عدم الالتزام بالدوام والغياب غير المُبرّر…
بينما هناك جزءٌ آخر ليس بكبيرٍ، يسعى من خلال دوره بغضّ النظر عن حجم هذا الدور لإظهار الوجه الخدماتيّ الذي هو أساس وجود الإدارات والمؤسّسات العامة في البلدان.
لكنّ واقع الحال تغيّر بعد فيروس كورونا والوضع الاقتصادي المتردّي، فبعد سنتين ونيّف من بداية انهيار العملة اللّبنانيّة تحوّل الحدّ الأدنى للأجور من 400 دولار إلى نحو 20 دولاراً أميركيّاً، أي أنّه يكفي اليوم لتعبئة ما لا يزيد عن تنكتي بنزين في الشهر.
فلا يستطيع موظّف القطاع العام تأمين كلفة تنقّله إلى مركز عمله وحتّى لم تعد بعض الفئات تستطيع الحصول على مخصّصاتٍ عينيّةٍ كالدواء مثلًا؛ ناهيك عن الصدمة الناتجة عن المعاش التقاعديّ أو تعويض نهاية الخدمة الذي لم يعد يشكّل سوى خيبة أملٍ للموظّف بعد أن كان سبب سعيه للحصول على وظيفة بهدف ضمان مستقبله.
فهل من وسيلةٍ لتغيير الواقع المرير في الإدارات والمؤسسات العامة؟
المُحاسبة، عبارةٌ رنّانة غير أنّها شبه معدومة في بلدنا، فالتوظيف العشوائي يتطلّب من الدولة إعادة هيكلةٍ بشريّةٍ لإداراتها؛ البطالة المُستترة في الدولة هي نتيجة سوء إدارة، ومع إعادة توزيعٍ صحيحةٍ للموظّفين بحسب حجم الإدارة قد نصل في لبنان إلى أطر محاسبةٍ فعّالةٍ أكثر من جهة.
بينما من جهةٍ أخرى، زيادة دور وفعاليّة التفتيش المركزي وصرامة أخذ القرارات والعقوبات تكون محفّزًا للحدّ من لامبالاة بعض الموظّفين، بالإضافة إلى دورٍ لكلّ وزيرٍ بضبط وزارته والقيام برقابةٍ ذاتيّة. وقد تكون خصخصة الدولة هي السبيل شبه الوحيد للحدّ من الهدر.
إعادة النهوض بالوطن تتطلّب قرارًا، وللأسف هذا القرار عليه أن يكون سياسيًّا، إذ تتحكّم بالسياسة منظومةٌ فاسدةٌ أوصلت وطننا إلى القعر!
لكن يبقى الأمل والإصرار دافعيْن للصمود بوجه الفساد.