حوار فوق الركام… رازي الحاج: “يتحاورون لإعادة إنتاج منظومتهم السياسية من خارج الدستور”
كتب طوني عطية لـ “هنا لبنان”:
يشكل الحوار الرافعة الإنسانية الأرقى في التفاعلات الحضارية والثقافية والسياسية في المجتمعات والدول، التي تنقل الخلاف السياسي من حالة الفوضى والشرذمة والنزاع، إلى حالة العقلنة عبر اكتشاف المساحات المشتركة بين الأطراف المتخاصمة. فالصراعات لا تنشأ بسبب الاختلافات إنما لعجز المتحاورين عن إيجاد الأهداف المشتركة والأهمّ تحقيقها. هذا في المنطق السليم في الدول الطبيعية.
أما في لبنان، تنقلب كلّ المفاهيم السياسية والمعايير الدولية في انتظام عمل المؤسسات والحياة العامة، لأنّه عندما لا تعود الدساتير والقوانين هي المحرّك الطبيعي والبديهي والوحيد لعمل الدول، تصبح الأطر الأخرى الخارجة عنها، مجرّد “هرطقات” خبيثة للقضاء على دولة القانون. فلم تشهد دولة في العالم هذا العدد الكبير من الحوارات كالتي شهدها لبنان، حيث انطلق قطاره الحواري الحديث (سبقته حوارات قبل الحرب الأهلية ومعها وصولًا إلى اتفاق الطائف) منذ العام 2006 في مجلس النواب، ليصل إلى “سان- كلو” في ضواحي باريس (2007)، إلى “اتفاق الدوحة” (2008) بعد احتلال بيروت في السابع من أيار من العام 2007، إلى “إعلان بعبدا” (2012) في عهد الرئيس ميشال سليمان، وصولاً إلى المحطة الأخيرة في عهد الرئيس ميشال عون، الذي لم يستطع حتى جمع كافة الأطراف والقوى السياسية بعد رفض مكوّناتٍ أساسيةٍ المشاركة في الحوار، كالقوات اللبنانية، تيار المستقبل و”المردة”، فيما أعلن الرئيس نجيب ميقاتي عن رغبته بالحضور كرئيسٍ للحكومة وليس بصفته أحد ممثّلي المكوّن السنّي، لتقتصر الموافقة على “التيار الوطني الحر” و”الثنائي الشيعي” والنائب طلال إرسلان للبحث في نقاطٍ ثلاث ألا وهي: الاستراتيجية الدفاعية، اللامركزية الموسّعة الإدارية والمالية، والتعافي الاقتصادي.
فما جدوى هذا الحوار المبتور فوق ركام الانهيار التام للمؤسسات، في نهائيات عهدٍ لم يسجّل أيّ علامةٍ فارقةٍ في إحداث التغيير المنشود الذي لطالما وُعِد به اللبنانيون؟ فهل أصبح الحوار موضةً أو طرفةً من طرفات السياسة اللبنانية، تحفظ ماء وجه الرؤساء والزعماء عما اقترفته أيديهم؟
يعلّق الخبير الاقتصادي والسياسي الدكتور رازي الحاج في اتّصال عبر “هنا لبنان” على الدعوة الرئاسية للحوار، قائلاً “إنّ المنظومة السياسية التي فشلت في إدارتها للدولة وعطّلت معها عمل المؤسسات، تذهب إلى الحوار كغطاءٍ سياسيٍّ فوق الدستور لإعادة إنتاج سلطتها واتّخاذ قراراتٍ سياسيّةٍ من خارج الحكومة وعلى حسابها، والتضحية بجريمة تفجير مرفأ بيروت”. مضيفاً: “من يدعو إلى الحوار، عليه التّحلي بصفات رجل الدولة المؤتمن على الدستور واحترام مواعيده في تسيير الحياة السياسية، وأن يكون تاريخه شاهداً على ذلك، لا أن يعرقل تشكيل الحكومات ويحدث الفراغ في موقع الرئاسة لأكثر من سنتين من أجل وصوله شخصياً (أنا أو لا أحد)”.
وسأل: “كيف يمكن للقوى السياسية المكوّنة للحكومة، الاتّفاق على طاولة الحوار، فيما هم يختلفون في جلسات مجلس الوزراء المعطّلة؟”.
ويرى الحاج أن “هناك طرفًا أساسيًّا في لبنان، أصبح سلاحه عبئاً على اللبنانيين، يريد أن يصرفه في مكاسب دستورية، ومن أجل ذلك يذهب بالبلاد إلى مرحلة الانهيار الشامل ونقل السلطة الفعلية إلى خارج السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ليعيد صياغة العقد الاجتماعي والدستور على قياسه عبر مؤتمر تأسيسي، تمّ طرحه بشكل جدّيٍّ قبل اندلاع ثورة أو انتفاضة 17 تشرين التي أعادت خلط الأوراق والحسابات والتحديات”.
وعن النقاط الثلاث المطروحة على مائدة بعبدا، يقول الحاج، إنه “من المعيب جداً أن نتحاور عما هو منصوص عليه في اتّفاق الطائف، خصوصاً بما يتعلّق بتحقيق اللامركزية الموسّعة الإدارية والمالية، فتطبيقها يجب أن يتم من داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، فما هو مكتوبٌ في الدستور لا يحتاج إلى حوار، بل إلى تنفيذ”.
وعن الاستراتيجية الدفاعية، يعتبر “أن هذه المسألة غير مجديةٍ في طرحها لا وطنياً ولا في خدمة المؤسسة العسكرية، أولاً لأنّ الجيش اللبناني وعلى عكس ما يروّجه البعض، لديه العقيدة والإمكانيات اللازمة التي تخوّله الدفاع عن لبنان، وأن معظم اللبنانيين يصطفون خلفه، ما يعطيه قوّةً وطنيّةً وحاضنةً شعبيةً تُزخّم قدراته ومعنوياته القتالية، ثم أن الاستراتيجية الدفاعية تبدأ بمجلس الوزراء الذي يعود له وحده تحديد خيارات السلم والحرب.
ثانياً، أيّ إشراك لأي تنظيم مسلّح يرتبط أيديولوجياً وسياسياً ومالياً وعسكرياً خارج الدولة اللبنانية، إلى جانب الجيش اللبناني الشرعي الوحيد، هو ضربٌ لمفهوم الدولة وحقّها الحصري في الدفاع عن أراضيها. ثمّ أن حزب الله الذي يتّخذ قراراته في السلم والحرب من طهران، والذي بات يشكل تهديداً حقيقياً لمصالح لبنان الخارجية، عبر انفلاشه الميليشياوي في حروب المنطقة في سوريا والعراق واليمن، إضافةً إلى نشاط خلاياه في أكثر من دولةٍ عربيةٍ وخليجية، يتناقض مع سيادة لبنان وتقرير مصيره، إلا إذا كان الهدف من إدخال السلاح غير الشرعي إلى الاستراتيجية الدفاعية، هو لمأسسته في حمى الدستور، ما يعني ضرب هوية لبنان وتغيير وجهه”.
أما بموضوع التعافي الاقتصادي وتحديد الخسائر، ختم د. رازي الحاج حديثه قائلاً: “أستغرب كيف أنّ هذه المنظومة السياسية وبعد أكثر من سنتين ونصف على الانهيار، لا يزال الملف الاقتصادي وجهة نظر بين السياسيين الذين أوصلونا إليه، متجاهلين نصائح وشروط صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي بإدخال الإصلاحات المالية والنقدية والهيكلية على مستوى الإدارة العامّة والسياسات الاقتصادية (عشو بدكن تتحاوروا؟)”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
“ما في دولارات للقمح”… الأمن الغذائي أمام كارثة حقيقية وهذه هي الحلول! | في عيد مار مارون.. أين هم الموارنة اليوم؟! | العونيّون… من الفنيقيين إلى البعثيين؟ |