جيكل وهايد اللبناني
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
حين كتب مايكل هدسون، المرجع في شؤون الشرق الأوسط، كتابه الشهير، بعنوان “الجمهوريّة المتزعزعة: التحديث السياسيّ في لبنان”، في العام 1968، ووصف فيه هذا البلد بأنّه “غريب وخارج على المألوف”، وتنبّأ بمستقبل لبنان الهشّ إلى حدّ التّفتّت قبل أن تحصل الحرب اللبنانيّة بسبع سنوات، (توفي في أيار من العام الفائت) لم يخطر في تصوّره أن يصل هذيْن الغرابة والخروج على المألوف إلى ما نشهده اليوم من الّلامعقول والعبثي، وإلى هذا الدرك من الفصام في كل تجليات الحياة العامة من الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وإلى أيّ دورٍ في عجلة الحياة اليومية. فالضحية في مجالٍ هو نفسه جلّادٌ في مجالٍ آخر، كحال الوزير، والسياسي والاقتصادي والمصرفي، والمستهلك والتاجر والموظف والمعلم والتلميذ، إلى آخر من يحمل صفة مواطنٍ عاطلٍ عن العمل أو شاغل وظيفة، راهنًا وسابقًا. ففي كلٍّ منهم صوتٌ يريد التمرد على ما وصلت إليه الحال، وصوتٌ آخر لا يتورّع عن انتهاز أيّ فرصةٍ ليجني من الخراب مكسباً.
كان لافتًا، في سبعينات الزمن الغابر، أن يتجاور القصر الفخم مع البيوت الرثّة، ما غذّى التوجه نحو التمرد الاجتماعي، فيما نجد اليوم، كيفما أصخنا السمع، أن في الكائن اللبناني الواحد يتجاور نقيضان على نمط دكتور جيكل ومستر هايد، واحد يهاجم الفساد وتهريب الأموال وخراب البلاد، والآخر لا يكلّ من نهب المال العام والخاص، ولا يملّ من الدعوة إلى المحاسبة والتدقيق الجنائي، أو يطالب بتوفير الكهرباء، والثاني، في ذاته، يرتب على الدولة أكثر من 45 مليار دولار هدراً، في هذا المجال، وينشئ سدوداً بملايين الدولارات، لا لحبس المياه، بل لتسريبها إلى باطن الأرض.
دكتور جيكل ومستر هايد هما شخصيةٌ مزدوجةٌ في روايةٍ قصيرةٍ نشرت في بريطانيا العام 1886، تدور أحداثها حول محامٍ يقطن لندن يُدعى السيد أترسون يقوم بالتقصي عن أحداث غريبة تقع لصديقه القديم دكتور هنري جيكل، الذي بداخله شخصيتان متناقضتان كليّاً من الناحية الأخلاقية، إحداهما طيبة، والأخرى شريرة (معبر عنها بمستر إدوارد هايد)، وقد أنتجت الرواية سينمائيًّا للمرة الأولى سنة 1931، وخلاصة بنيتها أن الخير والشر يتفاعلان في داخل كل إنسان، وأن الشر قد يأتي من الخير، وهي تطرح السؤال الآتي: هل للإنسان طبيعة واحدة أم طبيعتان؟ هل كله خير أم كله شر أم الاثنان معًا؟
في “الترجمة” اللبنانية لهذا الفصام زعم ساكن بعبدا حفظ الدستور وحرصه في الآن نفسه على ترئيس الصهر خلفاً له، أو دعوته إلى الإطاحة بحاكم مصرف لبنان وهو الذي مدد حاكميته، وبينما يبث أناشيده عن استقلالية القضاء، يصفق والصهر للقاضية غادة عون لتحديها سلطة مجلس القضاء الأعلى ولممارساتها الميليشياوية المتكررة، ويزور دار الفتوى بعد كل ما قاله في حق اللبنانيين المسلمين متخطّيًّا ما قاله ملك في الخمر، منذ وطأت قدماه أرض مطار رفيق الحريري الدولي. وفي الموازاة، يقود رئيس مجلس النواب السلطة التشريعية، أي منهل الديموقراطية، ويقود “حركة أمل” بـ “أياديها” البيض في 7 أيار 2008، وغيرها من صولات الممانعة ضد الرأي الآخر. أما في حال “الحزب القائد، وميليشياه فتكفي المقارنة بين تمسكه المزعوم بالدولة السيدة المستقلة، وعهده للولي الفقيه بألّا يكون لبنان مستقلًّا، بل جزءًا من الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
لا مجال لاستعراض الحالات “المرضية” المشابهة والتي لا يصعب رصدها، سواء على مستوى “الصفوة” السياسية والمالية أو على مستوى العامة، والأخيرة لم تخفِ فصامها في المتاجرة بالدولار الذي يوجعها بصعوده وهبوطه، حتى أنها لم تتردد في المشاركة بلعبة الدولارين القديم والجديد المزعومين.
للمفكر اللبناني منح الصلح قول شهير هو: اللبنانية ليست جنسية. إنها مهنة! ربما هذا الفصام جزءٌ منها.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |