زمن الصوم… مسيرة روحيّة تبدأ مع “أُذكر يا إنسان” وصولاً إلى القيامة
كتبت ريتا بريدي لـ “هنا لبنان”:
أيّام قليلة تفصلنا عن أبواب زمن الصوم الكبير لدى الكنائس التابعة للتقويم الغربي، الذي ينطلق مع يوم إثنين الرماد وسيكون هذه السنة في الثامن والعشرين من شهر شباط الجاري.
زمنٌ يدعونا ككلّ سنةٍ إلى السير مع المسيح، حاملين صلباننا، آلامنا، أوجاعنا، همومنا، صعابنا، وما أكثرها في أيّامنا هذه وفي وطننا الذي نعيش فيه درب جلجلةٍ يوميّ، وكم من شخصٍ ينتظر هذه المسيرة الروحيّة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، في هذا الزمن الذي يدعونا إلى العودة إلى الذات، إلى التوبة الحقيقيّة، وربما إلى اكتشاف أخطائنا وهفواتنا في هذا العالم.
صحيحٌ أنّنا في كلّ سنةٍ نعيش زمن الصوم من جديد، بأسابيعه السّبعة ضُمناً أسبوع الآلام، إلا أنّنا مدعوّون في كلّ مرّةٍ لعيشه بطريقةٍ جديدة، بنضوجٍ أكبر، بوعيٍ أكثر لهويّتنا كمسيحيّين. لذا أسفي على عددٍ كبيرٍ من “المسيحيين” الذين ينادون بالمسيحيّة وبالدفاع عنها وبحملها مُجاهرةً، لكن فقط على الهويّة، إلا أنّ حياتهم بعيدة تمام البُعد عن المسيح وعن حياة الإنجيل الذي عليه أن يكون دستور حياتنا كلّها.
نسير زمن الصوم، مُدركين مُسبقاً أنّ درب صلباننا وإن أدّت إلى الألم والموت، إلّا أنّ القيامة أكيدة مع الذي غلب الموت بقيامته، ونحن متّحدون به. فكما قال بولس الرسول: ” إِنَّه لَقولُ صِدْقٍ أَنَّنا: إِذا مُتْنا مَعَه حَيِينا مَعَه، وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه، وإِذا أَنكَرْناه أَنكَرَنا هو أَيضًا، وإِذا كُنَّا غَيرَ أُمَناء ظَلَّ هو أَمينًا لأَنَّه لا يُمكِنُ أَن يُنكِرَ نَفْسَه” (رسالة القدّيس بولس الثانية إلى تلميذه طيموتاوس 2: 11-13).
وفي اليوم الأوّل من زمن الصوم، يوم إثنين الرماد، يتهافت المؤمنون إلى الكنائس والأديرة لدهن جباههم بالرماد المبارك، وهو الرماد الباقي من حرق أغصان الشعانين من السنة الفائتة، وفي تلك اللحظة يتردّد في آذانهم وقلوبهم وضمائرهم جملة: “أُذكر يا إنسان أنّك من التراب، وإلى التراب تعود”.
جملةٌ لا بُدّ من أن تحرّك لا فقط قلوبنا المصلّية، إنّما ضمائرنا التي تتمسّك أحياناً بأمور هذه الدنيا وتبني سعادتها عليها وعلى الماديّات والألقاب والأمور الباطلة؛ جملةٌ تُعيدنا إلى حقيقتنا، إلى واقع ضعفنا البشريّ، وأنّه في مساء هذه الحياة ستعود أجسادنا إلى التراب، أمّا أرواحنا فتبقى خالدة وتحيا مع ربّ الحياة في الملكوت السّماوي، هناك الحقيقة، هناك الحياة الحقّة، وهناك بالطبع السعادة التي، وإن اتّحدنا بها منذ الآن على الأرض سنتّحد بها في السّماء.
هذه هي مسيرة الصوم التي نحن مدعوون إلى التعمّق بمعانيها التي تطال كافّة أبعاد حياتنا الروحيّة والإنسانيّة، لننمو وننضج أكثر في هويّتنا المسيحيّة.
وللإضاءة أكثر على معاني زمن الصوم وبدايته، كان لموقع “هنا لبنان” حديثٌ خاص مع الأب داني يونس اليسوعي، الرئيس الإقليمي الأسبق للرهبنة اليسوعية في الشرق الأوسط والمغرب العربي، والمدير الحالي لدار المشرق، ومتخصّص في التمييز الروحي، الذي أوضح لنا أنّ جملة: “أُذكر يا إنسان أنّك من التراب؛ وإلى التراب تعود”، هي من الكتاب المقدّس وهدفها أن تُلقي الضوء على أنّ الحياة لا نملكها بذاتنا، فنحن تراب والتراب لا حياة فيه، فالحياة عطيّة من الله، ولا يمكن للإنسان أن يُحبّ العطيّة أكثر من العاطي.
بالإضافة إلى أنّ كل شخص منا عندما يتذكر أنّ هذه الحياة لا تدوم، فهنا لا نضع تعلّقنا بأشياء دنيويّة زائلة، فيكون التعلّق بالله الذي وحده يدوم… لذا كل إغواء السلطة والمال والقوة، ينهار لأنّ حياة الإنسان لا تدوم وبذلك كل هذه التفاصيل لن تدوم له أيضاً.
ولكن الأمور تتغيّر مع الله الذي يدوم للإنسان في حياته، فحتّى عند زوال الجسد، فهو يمنح الحياة من جديد.
ويُضيف الأب داني يونس المعروف بقيامهِ بالعديد من الرياضات الروحيّة السنويّة للمكرّسين وللعلمانيين، أنّ هذه الجملة تُقال في بداية الصوم الأربعيني، لأنّها الفترة التي نتذكّر فيها نهاية كل الأشياء، أي نتذكّر أنّ الطعام لا يضمن الحياة، ولا حتى المال ولا القوّة؛ لا شيء يضمن البقاء، لهذا السبب نتذكّر في زمن الصوم ما هو أساسي وجوهري، وهي كلمة الله التي تُعطي الحياة.
أمّا عن الأساليب الأساسية حول الصوم، شدّد الراهب اليسوعي، أنّ كل ما هو بالإيمان المسيحي من صلاة، صوم وتعبّد يقودنا نحو الوصيّة الأساسية، وهي: “أحبب الربّ إلهك من كل قلبك، وكل نفسك، وكل ذهنك وبكل قوّتك… وأحبّ قريبك كحبّك لنفسك”.
لذا فالأسلوب الصحيح للصوم هو أن أفتح مكاناً للقريب، أي الانتباه للشخص المُحتاج، وقد يكون محتاجاً مادياً، معنوياً، نفسياً وحتى روحياً، فالقريب هو عطيّة من الله… فلأُحبّ الله عليَّ أن أُحبّ القريب، ولأحبّ القريب عليَّ أن أُحبّ الله.
بالإضافة لأهمية العمل الشخصي على الفضائل كالصبر، اللطف، الغفران، المشاركة في الخيرات، المساعدة… أي تدريبات شخصيّة صغيرة التي تدخل في كل المجالات الحياتيّة اليوميّة، والتي لا تشمل فقط مرحلة الصوم، بل عليها أن تكون كتدريبٍ للحياة كلّها.
وفي الحديث مع موقع “هنا لبنان”، ترك الأب داني يونس زوادة لصوم 2022، قال فيها أنّ هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى أنّ هذا العالم غير باقٍ، فالمؤسسات ممكن أن تنهار، والأوطان قد تنهار أيضاً… لذا بدل أن يُركّز الإنسان على إنقاذ الأشياء التي تقع عليه أن يركّز على المستقبل.
ويضيف: “لا شيء ثابت، فطريقتنا بالحياة تتغيّر، فبدل التعلّق بالأشياء التي تزول ونبكي عليها، لِنَقُل أنّه علينا التحضير لعالم جديد لعالمٍ أفضل، لنبدأ بالتفكير بطريقة مختلفة ونرى الأمور بطرقٍ مختلفة. في صوم 2022، علينا تغيير نظرتنا وتصرفاتنا حتى يتمكن العالم من الإستمرار”.
ختاماً، كلّ شيء يزول، كلّ شيء قد يتبدّل، كلّ شيء ممكن أن يتغيّر؛ وحده الصليب ثابتٌ، أمّا العالم فإنّه يدور.
لنبدأ مسيرة صومنا هذه السّنة حاملين صلباننا اليوميّة التي نعيشها في هذا الوطن، ولنجعلها راسخة في تربة الصليب، في ما هو ثابت، في الله وحده، وليكُن غِذاؤنا اليوميّ كلمته، كلمة الحياة. ولنردّد مع الطوباوي اللبناني أبونا يعقوب الكبّوشي: “يا صليب الربّ، يا حبيب القلب. لا سماء إلّا بالصّليب، روحي وقلبي في الصّليب”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
في اليوم العالمي للشطرنج: فوائده تفوق التوقعات! | “أهذا حقاً في لبنان؟”.. الهايكينغ يكتسح البلدات اللبنانية ويكشف جمالها! | احتفالاً بأسبوع الأصمّ العربي.. ملتقى “أوتار الصمّ” في الشارقة |