لبنان المظلوم بإرادته


كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان” :

من هو هذا الشعب الذي يصمت أمام انهيار اقتصاد بلاده، واضمحلال دخله، وتفاقم جوعه، وحرمانه من أساسيات العيش، وانكفائه عن الاعتزاز بقيمته الإنسانية، وعن كل ما جعله يفاخر بانتمائه لهذا الوطن، ويجاهر بطموحه أن يتكرس جنة على الأرض، كما حلمت به الأجيال؟

كان الإنطباع الغالب لدى اللبنانيين أن شعباً تعرّفوا عليه في بيوتهم، ومكاتبهم هو “بطل العالم” في

الصمت على الإساءة، وحتى الظلم، وهو شعب سريلانكا أو سري لانكا التي كانت تسمى بين 1948 و1972 باسم سيلان، وقد عرفها اللبنانيون من الشاي الذي تنتجه بكثرة وتصدّره إلى العالم ومنه لبنان.

حكمت سريلانكا، على امتداد ألفي سنة ممالك محلية، ثم احتلت البرتغال وهولندا أجزاء منها بداية القرن السادس عشر، قبل أن تسيطر الإمبراطورية البريطانية على البلد بكامله في 1815. وفي أوائل القرن الماضي ناضلت للحصول على الاستقلال السياسي، الذي تأتى في سنة 1948 بعد مفاوضات سلمية مع المحتل البريطاني. وقد تميز تاريخها المعاصر بالحرب الأهلية العنيفة التي امتدت قرابة ربع قرن من 1983 إلى 2009، بين متمردي نمور التاميل الانفصاليين والجيش السريلانكي، والتي انتهت بسيطرة الدولة المركزية.

سريلانكا من المعاقل الأولى للبوذية (70% من السكان) والباقي موزع بين الهندوسيين (12%) والمسلمين (10%) والكاثوليكيين (6%) والبروتستانتيين (1%). وعلى المستوى العرقي، يشكل السنهاليون غالبية السكان إضافة إلى التاميل (11%)، ولربما لعبت البوذية المسالمة دوراً كبيراً في تميز شعوب شرق آسيا بسمة الهدوء والتروّي. إذاً، هي، كلبنان، متعددة الأديان، وتزيد عنه أنها متعددة الأعراق.

عانت سريلانكا ما عاناه لبنان، وعاشت أزمة انهيار اقتصادي وأزمة نقص النقد الأجنبي التي تسبب بها توقف حركة السياحة في ظل جائحة كورونا والإغلاقات الدولية، وبعدما كان احتياطي النقد الأجنبي 7,5 مليار دولار عندما تولى الرئيس غوتابايا راجاباكسا منصبه في تشرين الثاني 2019، صار 2,3 مليار دولار في نهاية شباط 2022، فيما سقطت الرهانات الحكومية على تعاون صندوق النقد الدولي في إيجاد «طريقة جديدة» لمساعدة سريلانكا ما دفعها إلى تعليق سداد 7 مليارات دولار، ولم تلبث، وكما لبنان، أن أعلنت في نيسان الماضي أنها ستتخلف عن سداد ديون خارجية بقيمة 51 مليار دولار.

عدد سكان سريلانكا 22 مليون نسمة يعيشون أزمة اقتصادية عميقة تتسم بنقص الغذاء والوقود وانقطاع التيار الكهربائي وتضخم متسارع وديون هائلة، وفساد وهدر أموال عامة، وهي الأزمة الأسوأ منذ استقلال الجزيرة عام 1948. وقد دفع ذلك المحتجين للخروج إلى الشوارع، مما كثف الضغط على رئيس الدولة واضطُره إلى الفرار من القصر الرئاسي عندما غزته الجماهير الغاضبة، وفرضت تشكيل حكومة جديدة. وأسقطت القمع والقهر الذي واجهها به بدعوى بناء “جمهورية جديدة” منذ 2019.

أين لبنان من المشهد السريلانكي؟

النسخة السريلانكية من المأساة كشفت أن لا حدود للغضب الشعبي، وأنه حين يصبح مستحقاً لا تقف في وجهه اعتبارات صار اللبنانيون يمجّونها ولا يستسيغون إثارتها على حساب كرامتهم الإنسانية ولقمة عيشهم، لكنهم يخضعون لها في الغالب، وحتى حين فاض كيلهم بتفجير المرفأ، وبابتداع كل ما يعيق دور القضاء في كشف المجرمين المباشرين والمتلطين خلف نصوص قانونية يحمّلونها ما لا تحمل من حُجُب وحجج مزعومة، كأن “كرامة” هؤلاء وشخصانية كل منهم أهم من دماء الـ 224 ضحية وآلاف المهجرين والمتبطلين بقوة الدمار، أو كأنهم أكبر من أن يحترموا القضاء، فيمسخون دوره بعنتريات السيدة غادة عون، ويلجمون الحراك الشعبي بقدسية كراسي الرؤساء وبإيهام الناس بأنهم أنصاف آلهة تحميهم هيبة مواقعهم.

هل يشبه لبنان المأزوم حتى الإختناق سريلانكا؟

الجواب في نص وصفي لما يشهده رفيقنا السريلانكي في مأساة وطن، ورفيقنا في الجوع نشره موقع مصري قبل نحو أسبوعين يقول:

“بات سكان سريلانكا يتخطون وجبات الطعام ويصطفون لساعات محاولين شراء الوقود الشحيح. إنها حقيقة قاسية بالنسبة لبلد كان اقتصاده ينمو بسرعة، مع وجود طبقة وسطى متنامية، حتى تفاقمت الأزمة الأخيرة.

تدين حكومة سريلانكا بـ 51 مليار دولار، وهي غير قادرة على سداد الفوائد على قروضها. وقد تعثرت السياحة، وهي محرك مهم للنمو الاقتصادي، بسبب الوباء والمخاوف بشأن السلامة بعد هجمات إرهابية في العام 2019. كما انهارت عملتها بنسبة 80%، ما جعل الواردات أكثر تكلفة وفاقم التضخم الذي أصبح بالفعل خارج نطاق السيطرة، مع قفزة في تكلفة الغذاء بنسبة 57%، بحسب البيانات الرسمية.

والنتيجة: بلد يتجه نحو الإفلاس، حيث لا تكاد تتوافر أموال لاستيراد البنزين وغاز الطهو ولا حتى الحليب وورق التواليت، فالأموال اللازمة لدفع ثمن الواردات، ناهيك عن سداد المليارات من الديون أمر مستحيل، فكيف وقد تراجعت قيمة الروبية السريلانكية إلى نحو 360 مقابل الدولار، ما يجعل تكاليف الواردات أكثر تعقيداً؟

ألا يذكرنا بما لا ننساه؟

إنه لبنان، الذي ينتظر نهاية عهد كخاتمة لمأساة الإصلاح، لكن أهله يصبرون على آلامهم وجوعهم، مهما توجعوا. فالمهم ألّا يمس “المقام السامي”، لا في بعبدا ولا في ساحة النجمة أما الثالث فوحده تشمله الديموقراطية فلا يتقدّس اسمه، وتنشر “مثالبه” على سطوح بيروت.

إنه لبنان، “حمّال الأسية” المظلوم بإرادته، وشعبه الذي يعاني فصاماً في الوطنية، فهو، كما يقول الأخطل الصغير، “يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً”، وآخر ما يجره إلى هذا المشهد تقرير البنك الدولي قبل أمس والذي يدعوه “أن يعي بأن الانهيار كان متعمداً، وتم الإعداد له على مدى السنين الثلاثين الماضية لخدمة مصالح خاصة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us