٣ مواعيد = ٣ دروس
كتب راشد فايد لـ”هنا لبنان”:
ثلاثة مواعيد تتراصف في الأشهر الأخيرة من السنة الجارية: نهاية السنوات الـ 6 العجاف التي “زيّن” بها الرئيس ميشال عون تاريخ لبنان، وأشهد اللبنانيين كيف يمكن لفرد أن يحول عيشهم إلى نسخة غير منقحة من جهنم التي يقصر الخيال البشري عن وصفها، ونجح “الرئيس القوي” في الإتيان بها إلى بيوتهم.
الموعد الثاني هو الذكرى الـ 40 لاغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل، الذي أشاع انتخابه، يومها، ارتياحاً شعبياً لما أوحى به من ثقة لدى اللبنانيين، مؤيدين ومعارضين، وتفاؤلاً بنهاية الحروب على أرض وطنهم، وعودة الدولة إلى دورها واستعادة مؤسساتها.
أما الموعد الثالث فهو الذكرى الـ 40 لتأسيس “حزب الله”، الذي لا تنقصه المواعيد “لاختراع” مناسبات احتفالية مشهدية منذ أن تكرست، على يدي أمينه العام، فضائل الحروب من بعيد مع إسرائيل، بالخطب الرنانة، التي قد تشغل دوائر متخصصة في حكومة الكيان الصهيوني، لا أكثر، لكنها تخيف الداخل اللبناني، الذي لا يملك معلومة عن متى تنهار الهدنة المواربة بين الضاحية وتل أبيب.
لكن من تجمعهم المواعيد تفرقهم الوقائع: فمنهم من اكتشف، قبيل انتخابه رئيساً، أن لبنان أصغر من أن يقسّم وأكبر من أن يبتلع، وأن لا حماية من دون الدولة، ولا استقرار ولا تقدّم من دون مؤسساتها، وأبلغ مقاتلي “القوات اللبنانية” أن عليهم التحضّر لخلع بزاتهم العسكرية، ومنطقها، للالتحاق بالحياة المدنية، وأن ما كان قد مضى، ولا صوت يعلو على صوت الدولة.
لم يحكم بشير، ولم يلج قصر بعبدا رئيساً منتخباً، لكن هيبته، ونزاهته الشخصية أرعبت المتلاعبين على ضفاف القوانين، لا سيما سماسرة الدوائر الرسمية، الذين يحيون في بطالة مأجورة من أموال أصحاب المصالح والمهن.
لم يطلق على نفسه، أو أطلق عليه تسمية الزعيم، ولم “يدثره” أحد بلقب القائد، لكن ساد انطباع لدى أهل البلد أن اللبنانيين مقبلون على زمن جديد عماده القانون وحسن تطبيقه، وهيبة الدولة وسطوة الحق.
لا داعي للاسترسال في رسم تلك المرحلة، وهي على قِصَرها لم تغادر ذاكرة كثيرين ممن عاشوها، وانعشت آمالهم بدولة سيدة عادلة، وكل ذلك لا يلغي واقع ما سبق انتخاب بشير من اعتراض على توجهاته وأفعاله، التي نكص عليها بعيد انتخابه، وتوجها بتقربه من الحضن العربي، ورفضه توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل.
كان واضحاً أن بشير، بكل الأبعاد، يعود على أعقابه ليتفيأ نعمة الدولة، ويعمل لها وتحت علمها، وأنه في اللحظة التي انتخب فيها رئيساً قرر ألّا يُشرك في الانتماء إلى الوطن أي جهة، وألّا يعلي عليه أي طرف.
يذكّرنا كل ذلك بالرئيس سليم الحص، الذي شكّل أول حكومة في عهد الرئيس الياس سركيس، وكان على نقيض من بشير الجميل: لم ينتسب إلى حزب ولا رأس ميليشيا ولا حمل السلاح، لكنه اكتسب هيبة النزيه والصارم في الحق، والمؤتمن على مصالح الدولة. ويذكر مجايلو تلك المرحلة أنه في اليوم التالي لتكليفه بتشكيل الحكومة، وقبل أن ينال ثقة النواب بها، قصد مكاتب “مجلس الخدمة المدنية” في شارع فردان، حيث كان المقر المؤقت لرئاسة الحكومة، وكانت الساعة تناهز الثامنة صباحا، فوجد المدخل مقفلاً. قرع الباب ليطل عليه الحارس المناوب منبهاً إلى أن عليه العودة بعد ساعتين، وأن الموظفين لم يحضروا بعد، فرد عليه قائلاً “أنا سليم الحص رئيس الحكومة الجديد”.
اندهش الحارس وفتح له الباب وسارع إلى الاتصال بكبار الموظفين للحضور، ومنذ اليوم التالي صار وقت العمل مقدساً لديهم وغير خاضع للأمزجة الشخصية لكل منهم.
على نقيض بشير الجميل، لم يعط “العهد القوي” أي انطباع بأن صاحبه فوق الجميع، وحاضن لكل أبناء الوطن ويريد بناء الدولة، واستقلالية قرارها: فهو تخلى شكلياً عن قيادة تياره السياسي، فصار التيار، بقيادة الصهر هو من يقوده، وبدل أن يفي قسمه بالحفاظ على الدستور، كان هاجسه تحريف ما اتفق اللبنانيون عليه من أعراف وتقاليد، كمعاملة رئيس الوزراء كأنه وزير أول، واختراع جولات تشاور مع مؤهلين لحقائب وزارية، قبل أن يفاتحهم رئيس الوزراء المكلف بالأمر، وحتى قبل أن يعرف بهم مجلس النواب.
بين بشير المتمسك بالدولة، وعون المتمسك بضرب اتفاق الطائف، وتقويض الدولة، يطل دور السيد حسن نصر الله، الذي تقول خطبه، وتصرفات بيئته الحاضنة، أنه يريد من الدولة أن تطلب اللجوء السياسي إلى حاضنته الإيرانية، بدليل أنه بعد مضي زهاء 40 عاماً على تأسيس حزبه، لم يصدر عنه، أو عن أي من أعوانه، على كثرة خطبهم والتلويح بأيديهم وأصابعهم، ما يوضح أنهم ضد اعتبار لبنان جزءاً من جمهورية إيران الإسلامية. لكن ذلك لا يمنع الحزب وأمينه عن زعم الاستعداد الدائم للذود عن لبنان إذا هاجمت إسرائيل إيران. ويكاد المتابع يستنتج أن استعراضات القوة التي يطلقها الحزب بين الفينة وأختها هدفها التهويل على الداخل اللبناني، وليس إسرائيل التي بينها وبين الحزب دفتر شروط للحرب اسمه “قواعد الاشتباك”.
لا يغير في المشهد لدى الأمين العام أن يتحدث مسؤول إيراني من هنا، أو قائد عسكري إيراني من هناك، عن سيطرة طهران على القرار السياسي لـ 5 دول عربية هي “العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان، وفلسطين”، حسب زعمهم، متوجين ذلك بالقول أن “الأوان آن لإعلان الإمبراطورية الفارسية في المنطقة”.
برغم ذلك يحدثونك عن الذود عن الوطن وصونه وحماية أبنائه، ويتركونك تائها، سائلاً، عن أي وطن يتحدثون؟!
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |