صعوبات نزوح أهل الريف تقابلها معاناة النزوح العكسيّ لأهل المدينة
كتب أنطوني الغبيرة لـ “هنا لبنان”:
في لبنان لا أرقام رسميّة للتوزّع الديموغرافيّ في الوطن منذ سبعينيات القرن الماضي. الهجرة تزداد وعوامل عديدة تؤثّر على حركة إستقرار الشعب. من الناحية الداخليّة النزوح من الريف إلى المدينة أمرٌ تأقلمنا معه، لكن في السنوات الأخيرة لوحظت حركة نزوح عكسيّة من المدينة إلى الريف؛ هي نفسها اليوم تواجه عدّة مطبّات! كيف تتجلّى معاناة اللّبناني من خلال حركة النزوح من الريف إلى المدينة أو العكس؟
للإحاطة أكثر بمعلومات حول هذا الموضوع، تواصلنا في “هنا لبنان” مع الباحثة الإجتماعيّة “هنا يمّين” الّتي أشارت أنّه بحسب تقرير الأمم المتحدة لعام ٢٠٢٢ نحو ٧٧ ألف شخص نزحوا من الريف إلى المدينة. مؤشّرات عديدة تداخلت بين بعضها دفعت الأفراد لاتخاد هذا القرار الّذي ينعكس على البنية الإجتماعيّة في لبنان. ففي الفترة الأخيرة وبعد مخلّفات إنفجار ٤ آب، تضاعف عدد الوافدين إلى القرى، جزء عاد إلى مسكنه الجبليّ بعد تدمير مسكنه في المدينة وجزء آخر دفعه وضعه النفسيّ للإبتعاد عن مشاهد الدمار الموجودة أمّا الجزء الثالث فانتقل إلى الريف بحثاً عن مسكن أقلّ كلفةً من ذاك في المدينة.
أمّا الخبير الإقتصادي “محمّد الشامي” اعتبر أنّ نفس الأسباب الّتي تمنع اللبناني من الإستقرار بالريف، تعيق لبنان من أن يكون بلد صناعي، زراعي أو انتاجي. وهو غياب البنى التحتية الأساسيّة التي أصبحت غائبة بالمدن وهي بالأساس كانت شبه غائبة عن القرى. وزارتا الأشغال والزراعة غائبتان عن التخطيط من جهة، حتّى الحديث عن سبل لفتح الطرقات وجرف الثلوج لم يبدأ الكلام عنه!
بدورها أشارت يمّين أنّ بسبب جائحة كورونا تمّ اللّجوء إلى القرى ممّا خفّف الاكتظاظ المُدني، والعمل عن بُعد ساعد على تحريك عجلة السكن بالأرياف ممّا ساهم في تنشيط السياحة الداخلية. ومع عمليّة النزوح إلى الأرياف لوحظ إزدياد الروابط العائليّة بين الأُسر وتعزيز نسبيّ لمبدأ الإنماء المتوازن. فنشاط البناء إزدهر في القرى فلدينا ٢٥٩٠ رخصة بناء جديدة في محافظة الجنوب لغاية شهر تموز.
هذه الفترة من السنة بحسب الشامي تسمّى فترة الميم لدى أهالي القرى والأرياف، كونها فترة المونة والمازوت والمدارس. المدارس شبه موجودة لكن رسومها بالدولار وفي الأرياف لا يستطيع الفرد تأمين الدولار كما في المدينة، وهناك ضعف تجهيزات داخل المدارس الرسمية. بينما تكلفة مونة فصل الشتاء لأهالي الجبال أصبحت باهظة جداً، فلم يعد المزارع العادي يستطيع تأمين حاجته التي هي إستمراريته في البرد القارس.
أمّا بالنسبة للمازوت، فكان الأفراد يخزّنون معظمه للتدفئة وجزءاً صغيراً للحراثة. اليوم أصبح الطلب على المازوت أكبر بأربعة أو خمسة أضعاف، بسبب إستعماله للمولدات الكهربائية ومضخات الريّ ولا نغفل عن شحّ هذه المادة وبيعها بالدولار. تقوم التعاونيات الزراعية الممولة من المنظمات الدولية، بتثبيت المزارع بأرضه لكن لا شيء يحل مكان الدولة.
إعتبرت يمّين أنّ مشكلة الوقود الباهظ للتدفئة خلال الشتاء أو التنقل في الأيام العادية تبقى هي الأساس؛ وهذه المشكلة اليوم تدفع الكثيرين إلى البحث عن مسكن في مناطق أكثر دفئاً كالمدينة؛ في الماضي كان النزوح من الريف إلى المدينة بحثاً عن العلم أو العمل أمّا اليوم يختلف الوضع! الحالة الإقتصاديّة أدّت إلى وجود أحزمة بؤس أكبر في المدينة، وازدياد البطالة أدّى إلى الفوضى وازياد السرقات ومعدّلات الجريمة والإنحراف بسبب الحرمان.
مًشيرةً إلى غياب البنى التحتيّة التي تزيد من معاناة اللّبنانيّ، فرغم افتقاده للرفاهيّة في السنوات الأخيرة بسبب التضخّم وغلاء المعيشة، يعاني اليوم من فقدانه وسائل التسلية التي كان يؤمّنها له الاتصال بالإنترنت. هذه النتائج تعود لغياب الدولة والسلطات المعنيّة، فالرعاية الإجتماعيّة التي من المُفترض أنها تطوّرت منذ ستّينيات القرن الماضي، غائبة اليوم. “الشعب جائع، مريض، بحاجة إلى دواء غير متوفّر بالصيدليات، حتّى أنّه أصبح مشرّداً لا يملك سقفاً يحميه”.
وفي نفس السياق أكّد “الشامي” أنّ إشكاليّة الإيجارات بالمدن لا تقل سوءاً، فهي باتت مدولرة. أي منزل صغير لا يقل إيجاره الشهري عن ٣٠٠$. وصرامة شروط أصحاب المنزل تدفع بالأفراد إلى حالة ذُعر. كإستيفائهم الإيجارات بالعملة الصعبة حصراً، إضافة إلى دفع سنة مقدّماً وشهر تأمين وشهر عمولة أي دفع أقلّه ٥٠٠٠$ قبل السكن بالمنزل. هذه ليست مشكلة النازح من الريف بل مشكلة جميع سكان المدن. حتى المصروف الشهري بات شبه ثابت بالدولار- إشتراك المولدات والمياه وغيرها كأزمة المواصلات في ظلّ غياب شبكة المواصلات العامة.
الحلّ بحسب الشامي، هو إنتقال الدولة من مرحلة الغيبوبة والإنفصال التام عن الواقع إلى مرحلة الإجراءات. أي يجب أن تصاغ خطط إنقاذية واقعية على شكل مشاريع تنموية من قبل البلديات التي عليها تحمل مسؤولياتها ولا يمكن أن تبقى بلديات الأرياف في غيبوبة؛ خطط تتماشى مع قدرات الدولة، مقدّراتها الفعلية بنظرة إيجابية وليس بيع أصولها بل إستثمار مقوّماتها، لتلبية حاجات الناس. صندوق النقد الدولي لن يؤمّن إنقاذ لبنان الشامل، لذا علينا البدء بإصلاحات إجرائية بدءاً من مؤسسات الدولة والقطاع العام.
خاتماً، عند وجود الإرادة لاشيء يوقفنا، الصناديق العربية والأوروبيّة جاهزة لكنّ الدعم الدولي مشروط بإصلاحات. إذا اعتمدنا الحياد الإيجابي والخطاب السياسي الجيّد ستتحسّن الأوضاع في لبنان؛ “معظم مشاكلنا الإقتصادية هي نتائج للأعمال السياسيّة، سواء فساد داخلي أو للانخراط بحروب الآخرين”.
معاناة اللّبنانيّ لن تُحلّ مع هذا النظام الإقتصاديّ، فالأرياف لن تستطيع النموّ دون خطط إجرائيّة والمُدن لن تكون حاضنة لأبنائها مع غياب البنى التحتيّة. وفي كلتا الحالتين المواطن اللّبنانيّ يغيب عنه الإستقرار!