كارثةٌ بيئيّةٌ جديدةٌ: “الكوليرا” تفتك بمجرور اللّيطاني
كتب إيلي صرّوف لـ “هنا لبنان”:
كأنّ الأزمات الطّاحنة الّتي تفتك بالشّعب اللّبناني من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وتودي به إلى قعر جهنّم مباشرةً، لم تكن كافيةً، حتّى أُضيفت إليها أزمةٌ صحيّةٌ- بيئيّةٌ مستجدّةٌ، هي “الكوليرا”. لكنّ المفارقة هذه المرّة، أنّ تفشّي مثل هذه البكتيريا مجدّدًا في لبنان، لم يكن مستغرَبًا بل متوقّعًا، في ظلّ توافر كلّ العوامل المساعِدة والحاضنة؛ وغياب أيّ حلٍّ جذريٍّ لها في الأفق القريب.
فبين سوء نظام الصّرف الصّحي، غياب التّغذية الكهربائيّة لمحطّات التّكرير وآبار المياه، وتدنّي معايير النّظافة… تعدّدت الأسباب والنّتيجة واحدة: تلوّثٌ وجراثيمٌ وأمراض. هذه العوامل كان لها أيضًا تأثيرٌ كارثيٌّ على نهر اللّيطاني في البقاع، الّذي تحوّل للأسف مجرورًا للصّرف الصّحي، ومستوعَبًا كبيرًا لنفايات المصانع والمؤسّسات والمستشفيات الّتي اغتصبت طهارة مياهه. كما شكّلت التّجمّعات ومخيّمات النّازحين السّوريّين على ضفاف النّهر، مع ما يرافقها من رميٍ مباشرٍ للأوساخ والصّرف الصّحي في المياه من دون معالجةٍ أو تعقيمٍ، الضّربة القاضية لأطول أنهار البلاد وأهمّها استراتيجيًّا.
بعد شهرين على تسجيل أوّل إصابة بـ “الكوليرا” في لبنان، أعلنت “المصلحة الوطنيّة لنهر اللّيطاني” في 6 كانون الأوّل 2022، أنّ “الفرق الفنّيّة التّابعة لها قامت في بداية الشّهر الحالي بأخذ 10 عيّناتٍ من نقاط مختلفة على طول نهر اللّيطاني وروافده في الحوض الأعلى، وتمّ تحليل هذه العيّنات، وبيّنت النّتائج تلوّث 4 نقاط من أصل 10 بالكوليرا على طول مجرى النّهر”.
هذه الحال المزرية دفعت بالمدير العام للمصلحة الدّكتور سامي علويّة، إلى دقّ ناقوس الخطر والتّحذير من أنّنا أمام كارثةٍ بيئيّةٍ، وسط استمرار حال الفوضى في ملفّ النّهر منذ سنوات. في هذا الإطار، يشير علويّة، في حديثٍ لـ “هنا لبنان”، إلى “أنّنا منذ عام 2018، طوّرنا فريقنا لنتمكّن من أخذ عيّناتٍ من النّهر وإجراء المراقبة اللّازمة لنوعيّة المياه وكميّتها”.
ويوضح أنّ “نهر اللّيطاني مقسّمٌ إلى حوضَين: الحوض الأعلى ممتدٌّ من النّبع حتّى سدّ القرعون، والحوض الأدنى من السّدّ نزولًا إلى القاسمية والبحر الأبيض المتوسّط. المشكلة تكمن في الحوض الأعلى، حيث تتدفّق منذ عام 2001 تقريبًا، من 69 قرية وبلدة، مياه صرفٍ صحيٍّ أو مجارير تقدَّر بـ45 مليون مترٍ مكعّبٍ على مجرى النّهر”.
ويذكر علويّة أنّ “هناك وزاراتٍ كانت قد أعطت تراخيص لمؤسّساتٍ صناعيّةٍ ومستشفياتٍ على مجرى نهر اللّيطاني، وهي كانت ترمي الصّرف الصّحي والصّناعي والنّفايات الطّبيّة السّائلة في النّهر. كما أنّه بعد بدء الأزمة السّوريّة، قامت الدّولة اللّبنانيّة بوضع مخيّماتٍ للنّازحين السّوريّين على مجرى النّهر المذكور، وبالتّالي كان الصّرف الصّحي للنّازحين يصبّ أيضًا في اللّيطاني؛ بالإضافة إلى عصارة نفاياتهم”. ويرى أنّ “السّؤال ليس لماذا ظهرت الكوليرا، بل لماذا تأخّرت في الظّهور؟”، كاشفًا “أنّنا رصدنا وجود نحو 240 ألف نازحٍ على ضفاف النّهر، في محافظتَي بعلبك الهرمل والبقاع”.
لا يختلف اثنان على أنّ مبدأ المحاسبة ومعالجة المشكلات في لبنان، غائبٌ عن قاموس معظم المسؤولين، الّذين لا يتبجّحون بتحمُّل المسؤوليّة إلّا أمام الكاميرات ووسائل الإعلام. والوضع نفسه ينسحب على نهر اللّيطاني، الّذي يُسمَّم ويُلوَّث في كلّ دقيقةٍ، إلّا أنّ المعالجات لا ترتقي إلى حجم الكارثة.
في هذا السّياق، يشرح علويّة أنّ “المعالجات تقع على عاتق وزارة الطّاقة والمياه المسؤولة عن الصّرف الصّحي، ووزارة الصّحة العامّة المسؤولة عن النّفايات الطّبيّة، والجهات الأخرى المسؤولة عن مشكلة التّلوّث”، لافتًا إلى “أنّنا راسلنا الوزارات المختصّة والمديريّة العامّة لمجلس الوزراء، الّتي حوّلت بدورها المراسلات إلى الوزراء المعنيّين”.
ويؤكّد أنّ “لا تدابير عمليّةً وفعليّةً اتُّخذت، وبرأيي “Too late” أن تقوم الوزارات المعنيّة الآن بأيّ إجراءٍ، إذ باتت التّدابير الّتي يمكن اتّخاذها وقائيّة، لمنع اختلاط المياه الملوّثة بمياه الشّفّة والرّيّ والآبار، ولمنع الرّيّ من مياه اللّيطاني”.
ويبيّن أنّه “يتمّ تطبيق تدابير وقائيّة إلى حدٍّ ما، من خلال منع الرّيّ من النّهر وحماية مصادر مياه الشّفّة، إلّا أنّنا ما زلنا نرصد قيام بعض المزارعين برَيّ مزروعاتهم مباشرةً من نهر اللّيطاني، كما أنّ العديد من الآبار تلوّثت بالمجارير في منطقتَي كفرزبد وبرّ الياس؛ وبالتّالي باتت مياهها محمَّلة بمختلف أنواع البكتيريا والجراثيم لا سيّما الكوليرا”.
المدير العام للمصلحة لا يبدي تفاؤلًا نسبيًّا حيال إمكانيّة الحدّ من تفشّي التّلوّث وانتشار “الكوليرا” في مجرى اللّيطاني، بل يشدّد على أنّ “المشكلة مرشّحةٌ للازدياد، بظلّ استمرار الأسباب وعدم معالجتها”.
ويُعدّد أنّ “معالجة الأسباب تكون من خلال إفراج الدّولة عن المشاريع المتعلّقة بمعالجة الصّرف الصّحي، وتحميل المسؤوليّة للمتعهّدين والجهات المسؤولة عن تنفيذ مشاريع مموَّلة من الصّناديق الدّوليّة والعربيّة وتهدف لمعالجة مياه الصّرف الصّحي، غير أنّها لا تزال حتّى الآن مفقودة في وزارة الطّاقة ومجلس الإنماء والإعمار”. ويجزم أنّه “كان يجب اتّخاذ تدابير مشدّدة بموضوع مخيّمات النّازحين السّوريّين الموجودة في مجرى النّهر، ما يعرّضهم لكميّاتٍ هائلةٍ من المياه الملوّثة بالكوليرا، وهم بدورهم ينقلونها من خلال نفاياتهم السّائلة”.
منذ ثلاث سنواتٍ تقريبًا، كنّا نطالب بتأمين مقوّمات حياةٍ كريمةٍ وفرص عملٍ وطبابةٍ وغيرها. وبفضل الطّبقة السّياسيّة الحاكمة بتنا نطالب بتوفير مياهٍ نظيفةٍ، لا تكون شريكةً جديدةً في الإبادة الجماعيّة المرتكبة بحقّ الشّعب. فهل من يتحرّك قبل أن تُقتَل أنهار لبنان الأخرى، ويُقتَل الشّعب بسببها؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
تحرير سعر ربطة الخبز… إلى 65 ألف ليرة سِر! | في سيناريوهات الحرب: مصير لبنان النّفطي معلّق بالممرّ البحري | جنود المستشفيات جاهزون للحرب… بشرط |