أهالٍ للتحقيق الأوروبي
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
من يمنع القضاء اللبناني عن دوره المرجعي في التحقيق في الفساد المالي والتهريب النقدي، وعن تحريك التحقيق في تفجير المرفأ، لن يدع التحقيق الأوروبي (ألمانيا وفرنسا واللوكسمبوغ) يصل إلى كشف الحقائق في الجرائم المنضوية تحت العنوانين، وما يسميه الحزب المسلح بـ “الأهالي” سيتبيّن أن له امتدادات في قصور العدل اللبنانية، دورها جرجرة الأمور إلى درب التعمية واستحالة الوصول إلى ترسيم الحقائق. أما الضحايا، من شهداء ومفلسين فلهم الصبر والسلوان والترحم.
الظاهر للعيان أنّ أهل الطبقة السياسية-المالية، على تناقض مصالحها، لا يناسبها الوصول إلى فضح الملابسات وتبيّن المرتكبين، لأنهم من نسلها وسلالتها، وإلّا كيف تستمر جرجرة النقاش في الجريمتين منذ ما ينوف على 3 سنوات، بين ردّ قاضٍ من هنا، وكفّ يد آخر من هناك بينما يزيد المفلسون إفلاساً، والناهبون نهباً؟
عملياً، جرى عزل القضاء عن مهمته الأساس وهي إقرار العدل، وتجلت أمائره في الخضوع لمصالح أهل السياسة، والخضوع لتوجيهاتهم وهيمنة مصالحهم، فحين توزع المهام بين أهل القضاء بتوجيهات من مفاتيح السياسة، فلا بد للعدل من أن يصبح وجهة نظر، ويحيل المحامين على البطالة المقنّعة.
اليوم، أكّد إضراب القضاء الصورة الحقيقية لما عليه الدولة اللبنانية: ليست دولة طوائف، ولا إقطاعيات سياسية، بل هي تجميع لوحدات، منها القضاء وأجهزة الأمن والقوى العسكرية، والنقابات، من معلمين وطلاب وموظفين، وعمال وسائقين وغيرهم كثير، وكل منهم دولة بذاتها، ولها القدرة على تعطيل الحياة العامة، وعلى رفع الصوت بوجه الدولة نفسها، على هزالها وضعف دورها، فيما هي اليوم هيكل بلا شرايين تغذيها بالنسغ، حتى بدا البلد مجموعة قطاعات تتعايش في إئتلاف بينها، كل منها يصرخ في واديه ولا مجيب.
ليس مجلس النواب خارج هذه الوحدات. يكفي مراقبة ضحكات هؤلاء التي تنقلها شاشات التلفزة أيام الخميس الشهيرة، وقفشاتهم، للحسم في كونهم واحدة منها، همومها لا تشمل عذابات الناس وحقوقهم في أموالهم، ومعرفة من قتل أبناءهم، وشرّد عوائلهم، فيما يظهر فشلهم في انتخاب رئيس للجمهورية أنهم مصرون على حل من الخارج لاستعصاء التزامهم بالدستور الذي يستحضرونه يوماً ويغيبونه أياماً، بحيث تبدو الدعوات المكررة إلى الإلتئام تجزية للوقت، وتسلية دستورية، تبرر مواقعهم. كيف لا والندوة البرلمانية تفتقد رجال دولة من نمط المرحوم الرئيس حسين الحسيني الذي، كسابقين من الطبقة السياسية ما قبل زمن الميليشيات، وكانوا قلة، وصاروا اليوم ندرة، لم يقدموا مصالحهم على المصلحة الوطنية، وحين حرصوا على طوائفهم كان ذلك من منظار وطني ميثاقي، وليس تفتيتياً. واليوم بدأت الحملة على القضاة الأوروبيين في الإعلام بأن وصفت وسائل منه مجيئهم بالغزوة الأوروبية، لتوحي بأنهم، في عملهم، يعتدون على السيادة الوطنية، من دون تذكّر ما تنص عليه اتفاقات لبنان الدولية في هذا الصدد، والتي لم يتناهَ إلى سمع اللبنانيين أنه يعارضها، بل العكس من ذلك، إذ يتباهى حاكموه بأنه من أوائل الدول التي وافقت عليها.
ذلك لا ينفي أنّ القضاء اليوم تحت مجهر أوروبي، ودولي، وهو أمام مفصل في مسيرته، فإما أن يلمع صورته ومساره، ويستعيد موقعه في حماية العدل، بتعاونه الصادق، وفق القوانين المرعية وإما أن يوصل لبنان إلى إفلاس صدقيته القانونية، ونحر نزاهته القضائية في مجتمع العدالة الدولية. وفي الحالين قرار تأسيسي إما يحطم الصورة الزاهية للبنان في هذا المجال، وإما أن يرفع من مقامها ويعيد اكتساب ثقة الناس بها، في الداخل قبل الخارج. لكن ذلك ليس في المتناول. فأصحاب الحسم في قرارات الدولة، بقوة الأمر الواقع، خضعوا لاتفاقات الدولة اللبنانية بقبول مجيء الوفد الأوروبي، وتركوا للشيطان أن يعرقل في التفاصيل، حين يكونون في لبنان، وذلك موضع تضافر جهود بين جميع أصحاب المصلحة في عدم الوصول إلى الحقيقة في جريمتي المرفأ والفساد المالي، برغم تنافرهم في بعض المصالح، والمضحك المبكي أن انتقادهم، حتى الرفض، للدور الأوروبي ينطلق، حسب زعمهم، من الحرص على السيادة الوطنية.
كل ذلك يذكّر ببيت شعر يقول: مَا كَانَتِ الْحَسْنَاءُ تَرْفَعُ سِتْرَهَا / لَوْ أَنَّ فِي هَذِي الجُمُوعِ رجَالاَ
التفسير: أن القضاء اللبناني لو قام بدوره الواجب في التحقيقين لما جاء الأوروبيون مدججين بالإصرار على الوصول إلى الحقيقة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |