من يصلح القضاء إذ فَسَد؟
برغم الاستهجان العام، لم تتوقف محاولات إجهاض التحقيق في هذه القضية، ولا السعي إلى تطيير ملفها، سواء باجتهادات قانونية تدّعي حصانة لنواب ووزراء، أو بطلبات كفّ يد
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
“أنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ منْ يصلح الملح، إذا الْمِلْحُ فسد”
حمل الإنجيل هذا النص الذي تدور حول مصدره روايات من بطون التاريخ، وقد استدعته الذاكرة في مواجهة ما حل بقضية تفجير مرفأ بيروت، ولكن محوّراً: “إذا فسد القضاء، بم يصحح؟”، فما جرى بعد إنهاء الجولة الأولى من التحقيق الأوروبي عرّى القضاء من سموّ مقامه، وهو إحدى الركائز الباقية من هيكل الدولة، وربما يجوز القول أن هذه “الباقية” ليست سوى مؤسسة الجيش، التي لا تزال تحتفظ بهيبتها واحترامها لدى اللبنانيين، وربما حتى إشعار آخر، طالما أهل الحل والربط، لا يزالون قادرين على لي رقبة الدستور والقوانين لتخدم مصالحهم ومشاريع مرجعياتهم الإقليمية، وعلى حساب لبنان وشعبه.
ليس من العبث أن ينص الدستور على 3 مرجعيات في تكوّن السلطة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي سلطات تتكامل بلا استتباع، وتتواصل بلا استلحاق. لكن جدران قصور العدل تشهد على أن الوقائع ليست كذلك، منذ فجر الاستقلال، لكن ليس بالقحة التي يعرفها كل لبناني، اليوم، والتي تعززت زمن الوصاية السورية، واستفحلت في عهد الاحتلال الإيراني، إلى حد الفجاجة بزيارة مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله الحاج وفيق صفا في 20 أيلول 2021 إلى قصر العدل حيث التقى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود وطلب قبع المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار.
وبرغم الاستهجان العام، لم تتوقف محاولات إجهاض التحقيق في هذه القضية، ولا السعي إلى تطيير ملفها، سواء باجتهادات قانونية تدّعي حصانة لنواب ووزراء، أو بطلبات كفّ يد، أو ادعاء تضارب مصالح، ومخاصمة قضاة، أو فبركة استنتاجات تمسخ التفجير وتلغي أعداد الضحايا، وكأنه حادث سير عند تقاطع طرق، ذهب ضحيته قطيع حملان عبر من جهة إلى أخرى.
يوم عاد القاضي طارق بيطار إلى الملف، قال الذين لا يرغبون، ولا يريدون، فضح المجرمين الذين تسببوا بالتفجير، إنه يستقوي بدعم الوفد الأوروبي القضائي، تحديداً الفرنسي، وإن عودته تصب في مصلحة الغرب بمواجهة إيران، في صدامهما “الناعم”، حالياً، تحت مظلة المفاوضات النووية المجمدة. لكن الردّ الانفعالي لمدعي عام التمييز، والتحريض الإعلامي والسياسي المنسق على البيطار يتيح الاستنتاج أنّ وراءه من له رأي مضادّ، ولا يزال يسعى، منذ 4 آب 2020، إلى إقفال الملف، وفرض الصمت حوله، في تواطؤ مريب بين من دارت الشكوك في تورطهم في التفجير، فلا إسرائيل أومأت إلى من أحضر النيترات، وخزنها في مرفأ بيروت، ولا الحزب المسلح اتهمها بالجريمة التاريخية، على عادته منذ تبنّى دور المقاوم لمشاريعها.
يمنح هذا الخلل في هيكل العدالة اللبنانية فرصة لتدخّل العدالة الدولية كي تنصف شهداء التفجير، ومهجّريه، وجرحاه، بعيداً عن الضغوط الوقحة، أو تواطؤات البعض، الذين كانت لهم صولات في الخنوع للسياسيين، وأزلام الوصاية، في الكبيرة والصغيرة، والعفو عمن لا يستحق إلّا السجن، وتأبيد حبس من يسرق رغيف خبز لسد جوع عائلته، أو تصديق حكم على من تفبرك له تهمة عقاباً لموقفه السياسي، غير المناسب، للحاكمين.
لكن وقائع التصدي للقاضي بيطار، والجدال القانوني في الصلاحيات، ولمن تعود الإمرة في التسلسل القضائي، ستغرق القضية في جدال بيزنطي يوفر للهاربين من الحقيقة، والمسؤولية، منفذاً لتمديد تعطيل العدالة، وخنقها تحت غبار الجدال، ما يجعل تدخل العدالة الدولية أمراً لا مفر منه، يجنب البلد، أو ما بقي منه وفيه، تهديدات منتظرة ممن هو قادر على تدمير الهيكل ليكسب مشغلوه رهانهم الإقليمي. فها هو النظام المصرفي ينهار، والإستنزاف الغذائي والمالي، وتهريب الوقود، وكل ما يمكن أن يدعم النظام الأسدي، وتحليق الدولار في سماء الأسعار، وتسقّط الدعم الأميركي، كلها تضيء على الانهيار اللبناني، فما هي المؤسسات العامة التي يمكن القول إنها في حالة سليمة: أهي في القطاع التعليمي، أم في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، أو في الجامعة اللبنانية وحال أساتذتها، أم في تعاونية الموظفين؟
بعدما انزلق القضاء إلى زمن التفتيت، لم يبق من عناوين الدولة الواحدة سوى الجيش. وحده يبدو “أعور بين عُمي”. مع ذلك فإن بين اللبنانيين من يريد أن يُغرقه في الإعصار الداخلي ليستكمل تفتيت الدولة، فها هو وزير الدفاع، وهو عميد متقاعد، يعلن أنّه قد يطلب إقالة قائد الجيش، على خلفية التعيينات الأخيرة، وسر ذلك في الانتخابات الرئاسية المعلقة، ورغبة جبران باسيل في إخلاء دربها له، أو لمن يصطفيه من الأتباع.
كان كونفوشيوس، وأتباعه من بعده، يركزون على الجانب الأخلاقي للحكم، فيما ظهرت مدرسة فكرية جديدة ذات طابع عملي سميت “الالتزام بحرفية القانون”، رأى أتباعها أن الأخلاق لا تتعارض مع إصلاح المؤسسات الحكومية والقانون الوضعي.
بدا الصراع شاقا كالعادة بين الأخلاقي والواقعي، الأخلاقي يتمسك دائما بالمبادئ، والواقعي يركز على ما هو عملي. ويخبرنا التاريخ أن الواقعيين هم الذين ترجح كفتهم في صراع كهذا، فقلما تنتصر المبادئ على المصالح.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |