14 شباط، يومان في واحد
تعود هذه الذكرى ويعود معها إلى الوطن الرئيس سعد الحريري، فيما تعود الأسئلة التي ولدت قبل سنة ونيف حين علّق عمله السياسي، احتجاجاً على تنامي دور النفوذ الإيراني في لبنان..
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
صار يوم 14 شباط موعداً لحدثين، قديمهما يثري الجديد منهما: الأول، والأساس، ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وثانيهما، حضور نجله الرئيس سعد الحريري، إلى الوطن، لزيارة ضريحه وتجديد العهد له على صون نهجه، والقرب من جمهوره. وهذه السنة، كما كل سنة، تعود الأسئلة القديمة، والمستجدة، إلى أذهان الباحثين عن الحقيقة في ما، وفي من، وراء الإغتيال، من جهة، وفي ما دفع الرئيس الإبن إلى تعليق عمله السياسي، والإبتعاد عن مؤيديه، من جهة أخرى.
من يربط الوقائع منذ 14 شباط 2005 إلى اليوم، وينظر بعين المدقق السياسي إلى المشهد اللبناني يستنتج أن الإغتيال لم يكن “عقاباً” للحريري الأب على دوره في “حياكة” القرار الأممي 1559 (2 أيلول 2004) الذي جدد المطالبة الدولية “بالاحترام التام لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت سلطة حكومة لبنان وحدها من دون منازع في جميع أنحاء لبنان”، وطالب “جميع القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان” ودعا إلى “حل جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها”، إضافة إلى بسط سيطرة الدولة، والتقيد بقواعد الدستور “من دون تدخل أو نفوذ أجنبي”.
كانت إلزامات هذا النص معروفة من قبل أن ينشر، وكان النظام السوري معروفاً بالنوم على أحقاده، من دون نسيانها، وبعدم تمرده على أي قرار دولي، وانصياعه إلى حد الخنوع، بدليل انسحاب قواته من لبنان كلياً في 26 نيسان 2005، مع أن برمجته كانت تفرض الإنسحاب إلى منطقة البقاع، في مرحلة أولى، ثم إلى سوريا لاحقاً، ثم رأيناه كيف فوجئ بالإنسحاب الإسرائيلي، في أيار عام 2000، والذي كان يفترض أن يليه سحب قواته، فاخترع أدواته ما سمّوه استمرار احتلال جزء من قرية الغجر ومزارع شبعا، علماً أنّ أداته الرئيسية إميل لحود (رئيس الجمهورية الذي فرضه وفرض تمديد ولايته) كان وافق على ترسيم الخط الأزرق الذي لا يدخلها ضمن الأراضي المحرّرة.
وهنا نتذكّر إثارة هوية مزارع شبعا، أهي لبنانية أم سورية، وإصرار نظام الأسد على أنها لبنانية، والامتناع عن تقديم الوثائق التي يملكها لإثبات ذلك، كي تبقى موضع نزاع، من جهة، وحجة لاستمرار ادعاء “الحزب المسلّح” دور المقاوم. لأنّ تثبيت الأمم المتحدة لبنانية مزارع شبعا، يجبر إسرائيل على الانسحاب منها، والعودة إلى إطار اتفاق الهدنة الموقع عام 1948، فلا يعود من مبرر لادّعاء المقاومة، ولاستمرار الوصاية التي اشترط النظام لانسحاب قواته من لبنان، ورفعها، إنهاء الاحتلال الإسرائيلي من كل الأراضي اللبنانية.
كانت الانتفاضة ردّ فعل شعبياً بلا انفعال، لذا كانت سلمية، لم تشهد أي إخلال بالأمن، وتلقائية بلا قيادات حزبية. كانت قراراً إجماعياً جمعياً، لم ينتظر إشارة من أحد. جمع لبنانيين من كل البلاد، على تنوع أفكارهم، وانتماءاتهم. أسقطوا كل الفواصل بينهم ووحّدهم لبنان السيد الحر المستقل.
عوقب الأب على ما كان في مقدوره أن ينجزه للبنان، إضافة إلى ما كان أنجز في العمران العقاري، والإقتصادي، والثقافي، والتعليمي، ما جعل من اسمه علماً في المجتمع الدولي، وفي تجارب النهوض بالأمم. ولعل الأسهل، تذكّراً وتعداداً، النظر في ما آلت إليه شؤون البلاد في السنوات الثلاث الأخيرة: بيّنت الـ 18 سنة الفائتة، لكل ذي بصر، أن لبنان كان في زمن رفيق الحريري غير لبنان الذي في غيابه. إكتشف اللبنانيون معه معاني جدية وحقيقية للكلمات، فالإنجاز ليس بالوعد بل بالتنفيذ، والوطنية ليست شعارات تملأ الفضاء السياسي، بل مبادرات تعزز ارتباط اللبناني بوطنه، وأن الحرب والدمار والركام ليست قدر لبنان، وأن إعادة إنهاض الوطن ليست من المستحيل، إذا كان من يدير شؤونه يملك الإرادة والرؤية اللازمتين، وأن لا لبنان بلا لبنانيين يتجذرون في أرضه، ويعودون من المنافي ليكون لهم الدور الأكبر في إعادة بنائه، وأن إعادة البناء ليست بالحجر وحده، بل بإعادة بناء الإنسان مسلحاً بالعلم والكفاءة.
ليس أدلّ إلى ذلك من الأرقام، وليس في ذلك رثاءٌ لمن استنهض لبنان من ركام الحروب، بل رثاءٌ للبنان نفسه، الذي فقد باغتيال رفيق الحريري الأمل والرجاء في قيامة كان بجهده وصبره وأناته، وعناده البنّاء، شق نوافذ في الظلام لبعثها: كان الدين العام في لبنان إنفاقاً على مشاريع إنشائية لا تزال ظاهرة للعيان وكانت، خلال العام 1993 نحو 4.6 مليار دولار، ليرتفع إلى 18.6 مليار في العام 1998، وإلى نحو 33 في 2005، فـ 38.6 في العام 2006 ليبلغ 55.7 مليار دولار في العام 2012، وهو يقدّر اليوم بما يفوق الـ 100 مليار دولار، نصفها أنفق على قطاع الكهرباء الذي احتكر تيار الوزير جبران باسيل الوصاية عليه، ويفاخر بإنجازات في قطاع الطاقة لا يراها غيره.
هل كان رفيق الحريري سيحول دون تفاقم الأزمات الراهنة، على تنوعها؟
تجربته بعيد الحروب اللبنانية-الأقليمية- والدولية تصرخ بقدرته، وعلاقاته مع الخارج، العربي والدولي، على اجتراح الحلول والإنجازات، والردّ على الذين يخطئونه على مبادراته، ويزعمون ارتفاع كلفتها، هو أن الدين العام الذي راكمه زمن رفيق الحريري أنفق على مشاريع لا تزال ماثلة في كل لبنان، وإذا كان فيها هدر فالواجب الأخلاقي أن يُسال عنه أهل الوصاية من سوريين ومحليين كانوا يفرضون “جزية” على كل مشروع، ولا يموه “أياديهم البيض” على الوطن كلام المخضرمين منهم، والجدد، في استنكار الفساد، ورذله، لفظاً وزعماً. ومن يجول البصر والبصيرة في ما يعيشه لبنان من تخلف في توفير أوليات الحياة العامة، من ماء نظيفة، وكهرباء مستمرة، واقتصاد مزدهر، وشبكة طرق، ونظام رعاية صحية، وضمان اجتماعي، بلا كذبة سدود مائية، أو كهرباء لا تضيء، يعرف أن الحريري الكبير مفترى عليه من جانب كثيرين، وكان الأمل لأكثرية اللبنانيين الساحقة، ولا يزال، إلى اليوم، جذوة آمالهم.
في الموازاة، تعود هذه الذكرى ويعود معها إلى الوطن الرئيس سعد الحريري، الأمين على الحريرية السياسية، فيما تعود الأسئلة، التي ولدت قبل سنة ونيف حين علّق عمله السياسي، احتجاجاً على تنامي دور النفوذ الإيراني في لبنان، وقال، حينها، في سلسلة تغريدات عبر حسابه الرسمي على “تويتر”: “من باب تحمل المسؤولية، ولأنني مقتنع أنه لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستِعار الطائفية واهتراء الدولة، أعلن تعليق العمل بالحياة السياسية، ودعوة عائلتي في تيار المستقبل لاتخاذ الخطوة نفسها”.
لم يستسغ كثيرون من أهل الحريرية السياسية هذا القرار، منهم لإيمانهم بأن العمل في المجال السياسي ليس ممارسة مهنية نتركها حين نريد، ونستعيدها في وقت أنسب، سواء كان المعني بها معارضاً، أو موالياً، ومنهم من رأى فيها إخلالاً في التوازن الوطني، يتجلّى في خروج ممثل، شبه منفرد بزعامة أكبر طوائف الوطن، من الحياة السياسية، بعدما جاء إلى موقع الزعامة بدماء والده، وإنجازاته الوطنية، من مساهمته في وضع “اتفاق الطائف”، إلى عقد القمة العربية في بيروت مطلع آذار 2002، وأتبعها في تشرين الثاني من السنة نفسها بقمة الدول الفرانكوفونية.
ربما رأى بعض الحريريين في هذا الإنكفاء السياسي ما يشابه إستقالة الحريري من الرياض في 4 تشرين الثاني 2017، ثم عودته عنها في بيروت، ولم ينكفئوا، لهذا السبب، ولغيره، عن ممارسة حقهم في الإقتراع في الإنتخابات التشريعية، العام الفائت. لكن نظرة متروية في المجريات الراهنة تتيح الإستنتاج أن تعليق عمل “تيار المستقبل” أضعف دور طائفة أساسية في التركيبة اللبنانية، ووزنها السياسي، لكنه في المقابل نأى بها عن التحايلات على الديموقراطية لتبرير تعطيل الأعمال الدستورية، واستمرار تغييب رئيس الجمهورية المنتظر منذ 3 أشهر وأكثر، بدفع من “إخلاص” الحزب المسلح لقيادته الإقليمية، ومساوماتها النووية.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |