18 عاماً على الغياب.. اسم ومسيرة الشهيد رفيق الحريري حاضرة ومزعجة!
في السياسة كان الرقم الصعب ورئيس حكومات متتالية كان العمل السياسي خلالها ذا طعم خاص لا سيّما في أروقة السراي الحكومي.
كتبت شهير إدريس لـ “هنا لبنان”:
في زمن الزلزال المدوي في بلاد الجوار اللبناني في سوريا وتركيا، وفي الذكرى الثامنة عشر لزلزال استشهاد الرئيس رفيق الحريري، تخوننا الكلمات، ويصعب التعبير في كلتا الحالتين. فشهر شباط الذي يتوسّط أيّامه عيد الحب أصبح شهر الموت والحزن وشهر الذكريات الأليمة. لكن وسط كل ذلك الألم والخوف من المجهول، لا يسعنا سوى الحديث عن رجل طبع مرحلة كبيرة من تاريخ لبنان ولا يمكن اختصاره في بضع كلمات نسجّلها على الورق، لأنّ رفيق الحريري كان ولا يزال مالئ الدّنيا وشاغل الناس على الرغم من مرور 18 عاماً على غيابه.
لن أنسى ذلك الاثنين المزلزل والمشؤوم من العام 2005، إذ شاء القدر أن لا أكون في عداد مرافقي الرئيس الشهيد يومها لا سيّما أنّني رافقته كمراسلة لتلفزيون المستقبل على مدى 12 عاماً، خصوصاً في الفترة الأخيرة قبل أسبوع من عملية الاغتيال حيث غطّيت نشاطه السياسي على مدى ثمانية أيام مرهقة حملت معها الكثير من الأحداث والتحديات السياسية، وكنا قد مررنا في الموكب أكثر من مرة في نفس مكان وقوع الانفجار في منطقة “السان جورج”.
يوم إجازتي بعد عملٍ مُضنٍ لأسبوع متواصل لم يكتمل، إذ قطعه ذلك الخبر المدوّي عند الساعة الواحدة ظهراً والذي خطف معه كل التعب وعدت أدراجي إلى مبنى التلفزيون، ولدى وصولي إلى الباب تأكّد الخبر… “الرئيس رفيق الحريري سقط شهيداً”.
كم كان صعباً ومؤلماً أن أُكلّف بإعداد تقرير حول مسيرة الرئيس الحريري لكن هذه المرة بعد استشهاده، فكلّ كلمة حبر نزلت على الورق كانت تختلط بالدموع والقهر والنكران فيما شريط الذكريات الذي يمر أمام ناظريّ كبير ولا متناهٍ..
يوم الوداع كان قاسياً وكانت الكلمات والدموع تخونني على الهواء أثناء نقل وقائع مراسم التشييع في قريطم وسط حالة الحزن والذهول التي ملأت الأجواء… كيف لا ولبنان يودّع قامة لبنانية وعربية ودولية قلّ مثيلها في تاريخه، وطبعت سنوات طوال من العمل السياسي والاقتصادي والإعماري كما شكّلت نواة لبنان الحلم الذي حقّق جزءاً منه وقد اغتيل بسببه على أيدٍ لا تريد بلداً ولا دولة ولا رجالات كبار.
من لم يعرف رفيق الحريري عن قرب لم يكن يعرف شخصية ذات رؤية امتلكها بالفطرة، وتعلمها أكثر ممن يملكونها، ونفذها أحلاماً ومشاريع إعمارية وتربوية وإنسانية بعد حرب لبنانية دمرت الحجر والبشر. لم يكن في قاموسه مكان لعبارات: (لا أعرف ولا أقدر) بل عبارات النجاح والتحدي وتحقيق الأماني والأحلام نحو غدٍ أفضل ومستقبل واعد. كيف لا وهو القادم من المملكة العربية السعودية التي وثقت به وآمنت بقدراته ومشاريعه وفتحت له أبواب النجاح والتقدم، وهو عرّاب اتّفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية، وصديق العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، ومهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، وجاك شيراك رئيس فرنسا، ورجب طيب أردوغان رئيس تركيا وصديق العديد من ملوك وأمراء ورؤساء دول القرار في العالم التي كانت تقدره وتكسر بروتوكولات رسمية لاستقباله كما شهدت على ذلك الزيارات الرسمية لتلك البلدان أكثر من مرة.
إنجازاته هيمنت على المشهد السياسي والاقتصادي في لبنان، وبشكل خاص لجهة إعادة الإعمار وتوفير المناخ الاستثماري عبر المؤتمرات.
لم يكن الرئيس الشهيد يقوى على رؤية مدينة بيروت مدمرة، فكانت ورشة إعادة إعمارها أبرز أحلامه وأمنياته، كانت عيناه تلمع عند جولاته على المشاريع الإعمارية كالمدينة الرياضية والأنفاق والأتوسترادات والمطار وسوليدير والجامعة اللبنانية في الحدث والمستشفيات وغيرها الكثير…
وفي إحدى المرات سألته عن بيروت المدينة الأحبّ إلى قلبه والتي كان يتجوّل في شوارعها ليلاً وسط الناس ومن دون حراسة فقط بالاتّكال على الله فقال: “أريد أن تكون بيروت على شاكلة مدينة باريس وسأقوم بذلك” وهذا ما حصل. والفيلم الوثائقي الذي أظهره يتجول مع حفيده حسام في وسط بيروت كما زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان خير دليل على ذلك، لكن من أراد قتله أراد أن يُطفئ وهج مدينة النور من جديد.
العمل الإعلامي مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان له طعم خاص لا سيما أنه احترم وأحبّ الإعلام والصحافة والصحافيين حيث كان يستمع إلى آرائهم ويأخذ بها في بعض الأحيان بعد أن كان يسهر كل ليلة مع نخبة منهم لأنه يؤمن بصون الكلمة وحرية التعبير والحريات الإعلامية، كان يطمئن شخصياً وهاتفياً في حال كان أي صحافي وأنا منهم في وضع خطر أو تغطية لحدث صعب، لا سيما عندما ذهبت لتغطية الحرب في أفغانستان، كما كان يشجع في حال تغطية حدث سعيد ومهم. وكان من أمنياته في حال اعتزال العمل السياسي كما ردّد أمامي يوماً أن يترأس مجموعته الإعلامية كتلفزيون وجريدة المستقبل وإذاعة الشرق.
كما يشهد للرئيس الحريري في الشأن التربوي والتعليمي، كيف لا وهو من حقق أحلام وأمنيات شباب لبنان إذ علم أكثر من 30 ألف طالب وطالبة بعد أن عمل على بناء المؤسسات التربوية، وأنشأ جامعة رفيق الحريري في المشرف التي لا تزال تستكمل مشروعه التعليمي برعاية السيدة نازك الحريري. فقد كان العلم والمعرفة وصيته الأولى والأخيرة من أجل تقدم الأوطان.
على الصعيد الشخصي كان ذا شخصية قوية ويمتلك شجاعة كبيرة فيما يتعامل مع جميع من حوله بحنان وكأنهم جزء من عائلته، وكان ينسى نفسه أحياناً ولا يهتم لتفاصيل صحية وشخصية بسبب انشغالاته، ففي زيارة إلى اليابان كنت جالسة إلى جانبه على مائدة العشاء وطلب مني أكثر من مرة أن أعطيه قشة (الكوردان) للأسنان فوضعتها أمامه وسألته لماذا تستعملها بكثرة، فأجاب أن ليس لديه الوقت للذهاب إلى طبيب الأسنان، فقد كان يفضل حل مشاكل الناس على نفسه.
كانت لديه قدرة على متابعة التفاصيل الدقيقة ولا ينسى طلباً قدم إليه ويعمل على مساعدة الناس في السر والخفاء، كما يحرص على تنفيذ وعوده قبل موعدها. وقد شهدت في أحد الأيام واحدة من قصص كثيرة عندما طلبت منه مساعدة أحد الأطفال لإجراء عملية للعين كاد أن يفقدها، فلم يتأخر لحظة واحدة وأوعز إلى أحد الأشخاص الاهتمام بالأمر فأجريت العملية بنجاح وطمأنته عن الطفل فشكر الله أن الطفل استعاد نظره طالباً عدم الكلام علناً عن هذه القضية. هو الإنسان الذي يعمل بالقول “يجب ألّا تعلم يدك اليسرى ما أعطت يدك اليمنى”.
في السياسة كان الرقم الصعب ورئيس حكومات متتالية كان العمل السياسي خلالها ذا طعمٍ خاص لا سيما في أروقة السراي الحكومي الذي شهد على أحداث ومتغيرات كثيرة والتي علق على مدخلها مقولة “لو دامت لغيرك لما وصلت إليك”، كما راهن على العنصر الشبابي وعلى المرأة لتطوير المؤسسات والإدارات العامة فيما لم يهمل القطاع الخاص الذي آمن به وكان له دور كبير في الاستثمار في البلد.
الاعتدال والحفاظ على الدستور واتفاق الطائف وانتظام عمل المؤسسات كانت سمات رئيسية من سماته، وكان مؤمناً بالعيش المشترك بين جميع الطوائف اللبنانية إلى أبعد الحدود ومقولة “ما حدا أكبر من بلدو” خير دليل على ذلك، فقد عمل جاهداً للحفاظ على مبدأ المناصفة والتعايش بين المسلمين والمسيحيين. بنى علاقة جيدة مع الثنائي الشيعي وتفاهم نيسان أحد أهم نتائجه، لكنه واجه معارضات شرسة للحريرية وتحمّل الكثير في ظل النظام السوري لا سيّما في فترة التمديد للرئيس إميل لحود عام 2004 حيث تعرض لضغوط كبيرة أدت إلى استقالته من الحكومة، وكان كل من حوله ينصحه بالابتعاد عن السياسة، لكنه أبى ترك البلد ومصيره إلى من يريدون خرابه وتحمل المسؤولية الوطنية بشتى الوسائل غير آبه للضغوطات التي واجهها بثقة ولم يغب عن المشهد السياسي. وفي واحدة من الزيارات للخارج سألته في حديث معه في الطائرة: “دولة الرئيس لماذا تتحمل كل هذا الضغط”؟ فأجاب: “هل تريدون مني ترك البلد للمجهول والذهاب للعيش في المنفى؟”
باغته القتلة قبل تحقيق كل أحلامه والتي كانت معظمها لخدمة الوطن وبناء دولة نموذجية على شاكلة الدول المتحضرة متخطياً منعطفات سياسية خطرة من أجل صون لبنان وشعبه الذي أراد النظام السوري تكسيره على رأسه في حال معارضة التمديد للرئيس إميل لحود، فحل 14 شباط عام 2005 ومن بعدها 14 آذار ليخرج السوريون من لبنان على دماء رفيق الحريري ورفاقه وتحقيق جزء من الحرية والسيادة والاستقلال لا نزال ننتظر استكمالها على الرغم من قرار المحكمة الدولية في هذه القضية باتّهام أفراد من حزب الله. وبعد أن بقيت أدوات هذا النظام موجودة وتحاول جاهدة وحتى يومنا هذا العودة إلى الحكم بشتى الوسائل بعد أن عملت على تدمير الحريرية السياسية مع انكفاء الرئيس سعد الحريري عن العمل السياسي، فيما لا تزال الصورة قاتمة والمعركة مستمرة بين السياديين والممانعة منذ ثورة 17 تشرين وصولاً إلى الانتخابات النيابية والآن الانتخابات الرئاسية، وسط تدمير ممنهج للقضاء والاقتصاد والمؤسسات.
لن يحظى لبنان مجدداً برئيس يحمل بعضاً من صفات الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان ولا يزال مصدر إزعاج لمن يتحكمون بمصير البلد اليوم بعد 18 سنة على اغتياله.