رفيق الحريري الأوّل.. والثاني والثالث
الذي اغتال الرئيس الحريري عرف تمامًا أن يختار هدفه، لقد ضرب “حجر الزاوية” الذي إذا انهار ينهار البنيان.
كتب جان الفغالي لـ “هنا لبنان”:
أربعون عامًا على رفيق الحريري، ودخلنا في الواحد والأربعين. كُتبت مجلّدات عن رفيق الحريري، ومجلدات ما زالت تنتظر مَن يكتبها، والأمر ليس مستغربًا، فالرئيس الشهيد عاصر، لبنانيًا، الرؤساء أمين الجميل ورئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون ورينيه معوض والياس الهراوي وإميل لحود، وبعد استشهاده “عاصر” الرئيسين ميشال سليمان وميشال عون، وبالتأكيد سيعاصِر الرئيس الآتي.
وعاصر لبنان بدستور 1943، ولبنان بدستور الطائف الذي كان، عن حق، رافعة التوصل إليه.
عاصر تدمير لبنان ودماره، من الحروب الداخلية إلى حرب سوريا عليه، إلى حرب إسرائيل عليه، وعاصر إعادة الإعمار، وكان عرّابها.
بدايةً، كان ممنوعاً عليه أن يصل إلى أي موقع، وعندما وصل، كان ممنوعًا عليه أن ينجح ويُكمِل.
كان يعرف المصاعب ويتلمَّس الألغام المزروعة في طريقه، وأحيانًا تمّ زرع هذه الألغام من دون خرائط ترشد إلى مواقعها. أحاط نفسه بعقول مخضرمة: من جوني عبدو إلى زاهي البستاني إلى نهاد المشنوق إلى بهيج طبارة إلى باسم السبع إلى بازيل يارد إلى الفضل شلق إلى فؤاد السنيورة إلى فريد مكاري، إلى سمير فرنجية إلى غسان سلامة، وعدا السّهو فإنّ اللائحة تطول ويطول معها التعداد.
لماذا أربعون عامًا، كما ورد في مستهل المقال؟
يمكن تقسيم “تاريخ الحريري في لبنان” إلى ثلاث مراحل:
مرحلة ما قبل أن يُصبح رئيسًا للحكومة، وهذه المرحلة امتدت عشر سنوات، من العام 1982 إلى العام 1992، كان فيها رفيق الحريري “رجل الظلّ” في خطوط الاتصالات السياسية وفي المساعدات الإنسانية، وظهر اسمه في تلك الحقبة في أكثر من مرجع وفي أكثر من كتاب لوزراء وسفراء عايشوا تلك المرحلة عن كثب.
مرحلة السلطة بشكلٍ علني ورسمي، وقد امتدت من العام 1992، تاريخ تسميته للمرة الأولى رئيسًا للحكومة، وصولًا إلى اغتياله في 14 شباط 2005.
مرحلة ما بعد الاغتيال، واستمرّ فيها رفيق الحريري حاضرًا في مفاصل السياسة اللبنانية حتى اليوم، وليس تفصيلًا أن يكون رفيق الحريري مؤثِّرًا، حتى في غيابه، منذ ثمانية عشر عامًا، وهي المدة التي تعادل تقريبًا تأثيره “حضوريًا” بين مطلع التسعينيات وصولًا إلى يوم الاغتيال.
وقد يسأل البعض: كيف بدأ الرئيس الحريري بمعاصرة الرؤساء منذ العام 1982؟
كان يأتي إلى لبنان لتأمين المساعدات الإنسانية، على مختلف مستوياتها، وللمشاركة في الوساطات للتقريب بين الأفرقاء. لعب هذا الدور بصمتٍ مطبق، ولا يتذكَّر أحدٌ أنه أدلى بتصريح أو أصدر بيانًا. بقي في الظل حتى في مرحلة مؤتمري الحوار في جنيف ولوزان، إلى أن لاحت مرحلة الإعداد لمؤتمر الطائف. كان الرئيس الشهيد “حجر الزاوية ” في الإعداد لمؤتمر الطائف وفي التوصل إلى الاتّفاق.
رفيق الحريري رافق وواكب النواب اللبنانيين في قصر المؤتمرات في مدينة الطائف، وكان اليد اليمنى للجنة الثلاثية العليا ولا سيما للمملكة العربية السعودية، وتحديدًا لوزير الخارجية السعودي كما واكب انتقال النواب من الطائف إلى مدينة جدة حيث انعقد اللقاء الموسَّع مع خادم الحرمين الراحل الملك فهد بن عبد العزيز. وحين انتقل النواب إلى العاصمة الفرنسية، تمهيدًا لنقلهم إلى لبنان، بعد محطّتي المغرب والجزائر، العضوين في اللجنة الثلاثية العليا، لم يكن الرئيس الحريري بعيدًا، وحين غادر النواب الفندق الذي كانوا يقيمون فيه، إلى مطار القليعات، كان الرئيس الحريري يواكب حركتهم من منزله الباريسي.
الحقبة الثانية حين دخل إلى السلطة بعد الانتخابات النيابية عام 1992، في تلك الحقبة كان يمكن القول إن “عهد الحريري” قد بدأ، وقد أوجز الرئيس الراحل عمر كرامي هذه البداية عند خروجه من اجتماع مع الرئيس الياس الهراوي في مقر الرئاسة الموقت في الرملة البيضاء حين قال: “هبَّت رياح الحريري”، لكن هذه الرياح تحولت بعد ثلاثة عشر عامًا إلى عاصفة عاتية فاقتلعته بواسطة شاحنة من المتفجرات.
قبل الاغتيال الجسدي، حاولوا “اغتياله” عبر الانتخابات النيابية، فكان الردّ في انتخابات الـ 2000 حين “اجتاح” مقاعد بيروت التسعة عشر، وجاء هذا الفوز السّاحق ردًا على “الاضطهاد السياسي” الذي كان بدأ يتعرّض له مع وصول العماد إميل لحود إلى قصر بعبدا، وكان واضحًا أنّ وصول لحود القصد منه تحجيم الحريري، فأعطت هذه الخطة مفعولًا عكسيًا وثبتت زعامة الحريري.
بدأت الحقبة الثالثة باستقالته عام 2004 وإعلان بيانه الشهير الذي ختمه بجملة “أستودع لبنان بلدي الحبيب”… منذ تلك اللحظة نجح الاغتيال السياسي الّذي مهّد للاغتيال الجسدي، وعندها بدأ عمليًّا “الحريري الثالث”.
اليوم تعيش “الحريرية السياسية” حقبتها الثالثة، الوضع ليس سهلًا على الإطلاق، فالذي اغتال الرئيس الحريري عرف تمامًا أن يختار هدفه لقد ضرب “حجر الزاوية” الذي إذا انهار، ينهار البُنيان. وليس مصادفة أن أحد الكتب عن اغتيال الحريري حمل عنوان “الزلزال”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
راقبوا الميدان… الحرب في بدايتها | لبنان أمام عشرة أسابيع حاسمة | تدمير تحت الأرض.. دمارٌ فوق الأرض |