هادمو بنيان القضاء ينتفضون لكرامته؟
قد يكون قرار رئيس الحكومة موضع جدل سياسي وقانوني، لكنّه قرار الضرورة، وإلّا كيف نفهم تجيير قاضية بمفردها الأجهزة الأمنية لتبليغ المدعى عليهم من أصحاب المصارف بجلسات التحقيق أمامها، فيما ترفض أن تتبلّغ دعاوى الردّ المقامة ضدها؟
كتب يوسف دياب لـ”هنا لبنان”:
غريبة هذه الصحوة القضائية المفاجئة، والاستنفار السريع للردّ على مذكرة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي التي قضت بمنع الأجهزة الأمنية من تنفيذ أي إشارة للقاضية غادة عون بملفّ المصارف، وغريب أيضاً التلويح بخطوات تصعيدية تعيد مسار العدالة المتعثّر أصلاً إلى دوامة التعطيل، فيما يتناسى المنتفضون لكرامة القضاء والذين أمعنت معاولهم في هدم بنيانه، أن ممارساتهم أوصلت الواقع القضائي حدّ التفكك ووضعته على شفير الانهيار.
حسناً فعل رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، عندما سارع لعقد اجتماع طارئ للمجلس، محاولاً تدارك تداعيات هذا “التطوّر الاستثنائي”، وقطع الطريق على إمكانية العودة إلى إضراب قضائي لم يمضِ على تعليقه شهر ونيّف، وحسناً فعل عندما أعلن “التمسّك بمبدأ فصل السلطات واستقلالية السلطة القضائية”. علماً أنّ إلغاء مفاعيل قرار ميقاتي رهن عاملين: الأول تنفيذ مجلس القضاء ما تعهّد لجهة “تأمين انتظام العمل القضائي وحُسن سَير العدالة”، والثاني كبح جماح القاضية عون عن ممارساتها إلى حين وضع الحلول القضائية موضع التنفيذ.
لا أحد يطلب من المراجع القضائية تكبيل يدي هذه القاضية ومنعها من ممارسة سلطتها على رأس النيابة العامة في جبل لبنان، ولا حتى وقف تحقيقاتها بملفّ المصارف، بل أقصى ما يطلبه الغيارى على العدالة، إلزامها باعتماد المعايير القانونية واحترام حقّ المتقاضين، خصوصاً المدعى عليهم والمُخبر ضدّهم، ومنحهم حقّ إبداء ملاحظاتهم والاعتراض على قرارات تشكّل برأيهم تعسفاً في استخدام القانون، وأن تقلع عن انتقاء ملفات محددة يستخدمها بقايا العهد السابق في حربهم على الخصوم، وقد عايش اللبنانيون في السنوات الثلاث الأخيرة أبشع صورها ومآثرها.
لو استطاع مجلس القضاء التحرر من الضغوط السياسية التي مارسها عهد الرئيس ميشال عون، بدءاً من تعطيل التشكيلات القضائية وضرب أي محاولة إصلاح في الجسم القضائي، لما وصلنا إلى هذه الحال المأساوية، ولما كانت استطاعت القاضية عون ومن خلفها، أن يحولوا حربهم على المصارف، إلى مشكلة بين المصارف والسلطة القضائية. إن المعاناة التي يعيشها القضاء، هي نتيجة حتمية لسياسة أمعنت في تدمير مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى، وصوّبت على القضاء بشكل مريب، ولا ننسى خطاب الوداع للرئيس ميشال عون لدى مغادرته قصر بعبدا، الذي كان “حرب إلغاء” سياسية على ما تبقى من مؤسسات الدولة عموماً، وعلى القضاء خصوصاً، متّهماً إياه بحماية الفاسدين.
من حقّ القضاة أن يعترضوا على التدخل السياسي في عملهم، كما ورد في بيان “نادي القضاة” الذي لوّح بالتصعيد وأوحى بإمكانية العودة إلى الإضراب، لكن يقتضي التذكير بأنّ الحمايات السياسية حالت خلال السنتين الماضيتين دون كبح جماح القاضية عون، وباتت إمكانية الحلّ عبر مؤسسة القضاء أمراً مستحيلاً، بدليل أنّ مجلس القضاء استدعى القاضية عون ثلاث مرات واتخذ إجراءات عقابية بحقها ولم تمتثل، وللتذكير أيضاً ينبغي مراجعة مذكرة النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، الذي كفّ يدها عن التحقيق في الملفات المالية وضربت به عرض الحائط، وذهبت بإجراءات تمثّل تحدياً سافراً لكل رؤسائها، من خلال تنفيذها مداهمات لمؤسسة “مكتف” المالية، ودخولها بواسطة الكسر والخلع مستعينة بعناصر حزبية. وللعلم فإنّ “قاضية العهد” قفزت فوق صلاحيّتها المكانية، وداهمت المقرّ الرئيسي لمصرف لبنان في بيروت محاولة توقيف رياض سلامة من دون تنسيق مع النيابة العامة في بيروت، أو نيل موافقة مدعي عام التمييز.
قد يكون قرار رئيس الحكومة موضع جدل سياسي وقانوني، لكنّه قرار الضرورة، وإلّا كيف نفهم تجيير قاضية بمفردها الأجهزة الأمنية لتبليغ المدعى عليهم من أصحاب المصارف بجلسات التحقيق أمامها، فيما ترفض أن تتبلّغ دعاوى الردّ المقامة ضدها، وتهدّد أيّ موظف قضائي يحاول دخول مكتبها لهذه المهمّة؟ من أعطاها سلطة خارقة للصلاحيات المعنوية والمكانية لتجيز لنفسها مداهمة المصارف التي تقع مقراتها الرئيسية في بيروت، وتصادر منها “داتا المعلومات”، فيما ترفض الامتثال لقرارات مجلس القضاء والنائب العام التمييزي، وتأبى المثول أمام التفتيش القضائي؟ أيّ قانون يعطي قاضياً بعينه وكالة مطلقة للادعاء على مؤسسات مالية، وختمها بالشمع الأحمر ومصادرة أموالها المنقولة وغير المنقولة، مع علمها بالنتائج السلبية لهذا تصرّف، فيما تتجاهل الدعاوى المقامة أمامها ضدّ مؤسسة “القرض الحسن”، وتزعم أنّ الملف ليس من اختصاصها؟
مجلس القضاء في وضع لا يحسد عليه جراء على الواقع الذي بلغه الآن، كلّ من يتعاطى الشأن القانوني يدرك أن قصور العدل باتت مجرّد ساحات لمعارك التيار العوني ضدّ فئة من اللبنانيين، ودائماً تحت شعار “محاربة الفساد”. يقول جبران باسيل في خطابه الأخير: “وصلت معهم إلى حدّ الطّلب من الأجهزة الأمنيّة ألّا تُنفّذ أوامر السّلطة القضائيّة.. قمّة الإفلاس والوقاحة السياسيّة أن يطلبَ رئيس حكومة من وزير الداخليّة هذا الأمر علناً، أما القاضي فينفّذ كأنه مأمور”. لو أنّ صاحب هذا الكلام سياسي محايد لكان مفهوماً ومقبولاً، أمّا أن يصدر عن شخص أمعن في “ضرب مؤسسة القضاء، وكان رأس حربة في تهشيم صورتها فهذا يعني أننا نعيش “زمن الرويبضة”. خصوصاً أنّه وعدداً من نوابه ومناصري تيّاره حاصروا منزل رئيس مجلس القضاء الأعلى أكثر من مرّة، لأنه يحمي المحقق العدلي بملفّ المرفأ طارق البيطار ويرفض تعيين محقق عدلي رديف، وبلغت بهم الوقاحة حدّ وصف القاضي عبّود بـ “رئيس مافيا”.
نعم، إن قرار رئيس الحكومة يشكّل سابقة ربما لم تحصل من قبل، وفق تعبير مصدر قضائي، إلّا أن هذا المصدر أكد “قرار ميقاتي قانوني ولا يشكل تدخلاً بعمل السلطة القضائية”. وأوضح المصدر لـ “هنا لبنان”، أن “رئيس الحكومة هو رئيس الدولة حالياً، بغياب رئيس الجمهورية، وهو يقوم بالمسؤولية التي لم يقم بها وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، وما فعله يوقف تداعيات قرارات قضائية اتخذها أحد القضاة (غادة عون)، ستقود البلد إلى انهيارات على مالية ونقدية أسوأ مما هي الآن”، معتبراً أن “المشكلة ليست بقرار ميقاتي، بل بالإجراءات المتهورة التي لا يدرك أصحابها حجم خطورتها”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
سجناء أنصفتهم الحرب! | توقيف “عميل” زوّد “الموساد” بمعلومات عن “الحزب” | وكلاء سلامة مرتاحون لمسار التحقيق.. رُبّ ضارّة نافعة |