الدّولرة تدقّ باب المنتجات الزّراعيّة فهل يُفتح لها؟
بِسَوطه المؤلم، يجلد الدّولار جيوب اللّبنانيّين وصحّتهم النّفسيّة، ويُخضع القطاعات كافّة لتقلّباته الهستيريّة أو أهواء محرّكي تطبيقاته؛ وكان القطاع الزّراعي آخر ضحاياه. فأصبح جنى الموسم الزّراعيّ لا يساوي ربع قيمة الأكلاف الّتي تكبّدها المزارعون، أو تلك الّتي يحتاجونها للتّحضير للموسم المقبل.
كتب إيلي صرّوف لـ “هنا لبنان”:
تنازلَت “جهنّم” مُكرَهةً، عن الدّور المُناط بها منذ أشهرٍ لاختزال الواقع اللّبناني المأساوي، بعدما وَجدت أنّها لم تَعد تفي المرحلة الحاليّة حقّها. فحفلة الجنون الّتي يرقص لبنان على إيقاع أزماتها المتتالية وانهياراتها المتسارعة ودولارها المحلّق، تخطّت المنطق والقدرة الاستيعابيّة وحتّى الصّفات الجهنّميّة؛ وبتنا بحاجةٍ إلى مصطلحٍ آخر لتوصيفها.
فَبِسَوطه المؤلم، يجلد الدّولار جيوب اللّبنانيّين وصحّتهم النّفسيّة، ويُخضع القطاعات كافّة لتقلّباته الهستيريّة أو أهواء محرّكي تطبيقاته؛ وكان القطاع الزّراعي آخر ضحاياه. فأسوةً بسائر المواطنين، تشدّ الأزمة الاقتصاديّة الماليّة والانهيار المتواصل للّيرة اللّبنانيّة، الخناق على رقاب المزارعين، الّذين يشكون من ارتفاع أسعار المستلزمات الزّراعيّة، فضلًا عن إقفال عددٍ من الأسواق العربيّة المهمّة في وجه تصريف إنتاجهم.
وفي ظلّ اعتماد الدّولار كمعيارٍ أساسيٍّ في عمليّة تسعير المستلزمات والمنتجات الزّراعيّة، وارتفاع التّكاليف والغياب الجزئيّ للرّقابة، تراجع الإنتاج وارتفعت أسعار السّلع بالنّسبة للمستهلكين. هذا عدا عن أنّه بسبب الانهيار المفجع للعملة الوطنيّة أمام منافستها الخضراء، أصبح جنى الموسم الزّراعيّ لا يساوي ربع قيمة الأكلاف الّتي تكبّدها المزارعون، أو تلك الّتي يحتاجونها للتّحضير للموسم المقبل.
في هذا الإطار، يوضح رئيس تجمّع مزارعي وفلّاحي البقاع ابراهيم ترشيشي، لـ “هنا لبنان”، أنّ “أهمّ التّحدّيات الّتي يواجهها المزارع اليوم هي التّغيّر في سعر الصّرف، فهو يوميًّا تقريبًا يخسر نحو 5 بالمئة من قيمة أمواله ومن قيمة المنتجات الّتي يريد بيعها”، مشدّدًا على أنّ “المزارعين يترنّحون بين مطرقة رفع الأسعار حيث يواجهون الكساد وعدم تصريف الإنتاج، وسندان الاستمرار بالبيع والشّراء باللّيرة اللّبنانيّة الّتي تفقد قيمتها بين ساعةٍ وأخرى فتعرضهم للخسارة”.
ويشير إلى أنّ “الرّساميل وكلّ المستلزمات الزّراعيّة من أسمدةٍ وبذورٍ وأدويةٍ وضمان أراضٍ ومحروقاتٍ وكلفة نقل، باتت بالدّولار، ولم يعد هناك سوى اليد العاملة بالعملة المحلّيّة، وسط المطالبات بدولرة رواتب العاملين أيضًا”.
مَن يدخل إلى محال السّوبرماركت يشعر وكأنّه يتبضّع في متاجر الولايات المتّحدة الأميركيّة، بعدما نجح الدّولار في رَكل اللّيرة عن رفوف الأسعار، لكنّ المفارقة أنّ الخضار والفاكهة لا تزال مستثناةً من حُكم الدّولرة.
ويركّز ترشيشي على “أنّني كنت أقول في السّابق إنّه لا يجب أن نفكّر ببيع إنتاجنا بالدّولار، لأنّنا نكون بذلك نقضي على العملة الوطنيّة ونضعها خلف ظهرنا. لكنّنا اليوم نقول صراحةً إنّه “ما بيمشي الحال” إلّا إذا سُعّرت المنتجات الزّراعيّة بالدّولار”. ويحذّر من أنّه “إذا لم يحصل ذلك، فسينقرض المزارعون وتصبح الأراضي قاحلة، إلّا إذا أقدم آخرون غيرهم على زرع الأراضي وتحكّموا بالأسواق وفقًا لأهوائهم؛ فتتغيّر بذلك حياة المزارعين رأسًا على عقب”.
تفاوُت أسعار السّلع الزّراعيّة بين نقطة بيعٍ وأخرى بات فاضحًا في الكثير من الأحيان. في هذا السّياق، يلفت ترشيشي إلى أنّ “فروقات الأسعار بين منطقةٍ وأخرى وسوبرماركت وأخرى موجودةٌ منذ زمنٍ، وليست وليدة الظّروف الحاليّة. فإذا تمّ قياس البُعد الجغرافي بين موقع الإنتاج ونقطة البيع، بالتّأكيد مثلًا سنجد سعر كيلوغرام البرتقال على السّاحل أرخص ممّا هو عليه في بعلبك؛ لأنّ أجرة النّقل تختلف. هذا فضلًا عن أنّ تكلفة إيجارات المحلّات ونوعيّة البضائع، عوامل مؤثّرة في تفاوُت الأسعار”. وينصح أنّ “يشتري المستهلكون من الأسواق الشّعبيّة أو المركزيّة”.
كما يكشف ترشيشي أنّ “هناك تراجعًا على صعيد الإقبال على شراء المنتجات الزّراعيّة، لأنّ الفقراء لم تعُد لديهم القدرة على الشّراء كما كان الوضع سابقًا. فارتفاع الأسعار يقابله تراجعٌ في عدد الأفراد الّذين يشترون السّلع، وبالتّالي هناك حالةٌ من التّقهقر يتشارك بها المنتِج والمستهلِك على حدّ سواء”.
لا يزال التّهريب من لبنان إلى الخارج، وتحديدًا إلى سوريا، بمثابة خنجرٍ في خاصرة الدّولة اللّبنانيّة. ولو أنّ نسبته تراجعت مؤخّرًا، إلّا أنّ أحدًا لم ينجح بنزعه نهائيًّا، أو بالحريّ لا إرادة وقرار جدّيَّين للإقدام على هكذا خطوة. ويفسّر رئيس تجمّع المزارعين أنّ “نسبة التّهريب تراجعت لأنّ الرّبح المادّيّ تراجع أيضًا. وللأسف لا أحد يستطيع مكافحة التّهريب أو إقفال الطّرقات المخصّصة له، وهذا موضوعٌ أكبر من الحكومة في هذه الظّروف الصّعبة”.
ومع اقتراب حلول شهر رمضان المبارك، ازداد منسوب القلق لدى المواطنين من الارتفاع المرتقب لأسعار السّلع الزّراعيّة ولا سيّما الخضار، الّتي يتضاعف استهلاكها في الموائد الرّمضانيّة. إلّا أنّ ترشيشي يطمئن “لا أعتقد أنّه سيكون هناك ارتفاع لأسعار المنتجات المحليّة في شهر رمضان، إلّا في اليوم الأوّل منه ربّما، إذ سيتهافت الجميع لشراء البضاعة، وبعدها تأخذ الأمور مجراها الطّبيعي؛ ولكنّ الإنتاج متوفر ونخاف من الكساد وليس من ارتفاع الأسعار. أمّا السّلع المستورَدة فهي الّتي قد يرتفع سعرها، لأنّها تُسعَّر بحسب سعر الصّرف في السّوق السّوداء”.
السّقوط الحرّ نحو المجهول عنوان المرحلة الحاليّة، وسط ضبابيّةٍ تسيطر على الملفّات كافّة وتدهورٍ من دون قعرٍ لليرّة اللّبنانيّة، الّتي أصبحت قيمتها للأسف أرخص من قشرة البصل. وتحت ضغط سعر صرف الدّولار وارتفاع التّكاليف الّتي يحتاجها الموسم الزّراعي المقبل، ها هي الدّولرة تدقّ باب المنتجات الزّراعيّة، فهل يُفتح لها؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
تحرير سعر ربطة الخبز… إلى 65 ألف ليرة سِر! | في سيناريوهات الحرب: مصير لبنان النّفطي معلّق بالممرّ البحري | جنود المستشفيات جاهزون للحرب… بشرط |