المنظومة الحاكمة متلهية بلعبة التوقيت وتلاحق الموتى إلى قبورهم
ما زال المسؤولون يفتعلون الأزمات الطائفية ويمعنون بإشعال نار الفتن وتجييش من وراءهم للتغطية على فشلهم في إدارة البلاد والمؤسسات والتعمية على أفعالهم وصفقاتهم بدل الإنصراف إلى تحقيق مسار الإصلاحات المطلوبة التي يطلبها المجتمع الدولي، فلم يجدوا سوى “الوقت” ملاذاً لهم..
كتبت شهير إدريس لـ “هنا لبنان”:
تتلهى المنظومة الحاكمة في لبنان وتلهي المواطنين بمواضيع بديهية وهي أبعد ما تكون عن همومهم وأوضاعهم المعيشية والإجتماعية لكنها أيضاً تصب في أولوياتهم وتؤثر على مسار حياتهم في تفاصيلها اليومية لا سيما الإنسانية منها.
ففي خضم الحملات التي رافقت مسألة التوقيت الشتوي والصيفي نسي من قاموا بهذا الفعل أن هناك أمواتاً لم تنعم أرواحهم بالراحة، بسبب هذا القرار الذي اتّخذ لغاية في نفس هذه المنظومة والتي لم تكلّ أو تملّ من إهانة كرامات الناس من دون تقديم الأسباب وراء قراراتها “الخنفشارية”.
فخالتي التي توفاها الله منذ يومين في بلد الخير “الكويت” والذي احتضنها على مدى 60 عاماً معززة مكرمة وقدّم لها كل الخدمات الإجتماعية والطبية لم تكن تعلم أن موتها سترافقه كل هذه الطنّة والرنة بسبب موضوع التوقيتين الصيفي والشتوي. فقد مرت مراسم الدفن على خير قبل يوم من القرار المشؤوم، إلا أن مسألة التوقيت فرضت نفسها على مراسم التعزية، فالحديث عن هذا الموضوع غلب الحزن على سيدة قضت سنوات عمرها في تربية أولادها في بلاد الغربة بعيداً عن وطنها بسبب قلة الأمان وإنعدام الفرص، ونجحت في تعليم أبنائها وإيصالهم إلى مراحل متقدمة في البلد الشقيق الكويت الذي لم يبخل يوماً على لبنان وأبنائه. قرر أبناؤها مراسم التعزية يوم الأحد الساعة العاشرة وعمم الأمر في النعوة التي وزعت في بلدتها وعبر وسائل التواصل الإجتماعي، لكن مسألة التوقيت وضعتهم في حيرة من أمرهم كما وضعت المعزين في نفس الموقف، لا سيما المعزين القادمين من بيروت والمناطق بإتجاه الجنوب حيث توالت الإتصالات للسؤال إن كانت التعزية في العاشرة بالتوقيت القديم أو الجديد. فكان صباح الأحد مختلفاً حيث توافد البعض عند التاسعة صباحاً وآخرون فضلوا الأمر الوسط فحضروا عند التاسعة والنصف فيما البعض الآخر وصل عند العاشرة. ومنهم أيضاً من وصل متأخراً ففضل زيارة المنزل بدل الحسينية مكان إقامة مراسم التعزية.ع
القضية برمتها شغلت بال أبنائها الذين أردوا فقط تلقي التعازي بشكل لائق بوالدتهم في مسقط رأسها، وفوجئوا بكيفية تعاطي المسؤولين في لبنان مع المواطنين بهذا الكم من الإستهتار بحقوق وكرامة الإنسان والعزف على وتر الطائفية في ظل الإنهيار الحاصل، وهو من الأمور التي لم يعتادوا عليها في حياتهم.
القصة لم تنته عند هذا الحد إذ انشغل الأبناء أيضاً في قضية سفرهم إلى الكويت بسبب توقيت رحلة العودة التي ستحمل معها ذكريات أليمة تاركين رفاة والدتهم في أرض الوطن الذي لم يحسب لها حساباً لا في حياتها ولا في مماتها.
القصة نفسها تكررت يوم الأحد وفي نفس المكان إذ صودف وفاة ابن خالتي الثانية وهو متقاعد في الجيش اللبناني ومختار الحي بعد صراع مع المرض. والحيرة خيمت على توقيت مراسم الدفن وتقديم التعازي، حيث قدم الجثمان من العاصمة بيروت إلى مسقط رأسه فيما معظم الناس حائرون في أمرهم، لكن أغلبيتهم إلتزموا التوقيت الشتوي. لكن عائلة الفقيد احتارت أيضاً حيال توقيت الدفن بسبب أسئلة المعزين إلا أنها التزمت بعد ذلك بدفنه عند الساعة الواحدة وبعد صلاة الظهر بعد تأخر لمدة ساعة بسبب التوقيت. وقد غلب حديث “الساعة” كذلك على الحزن والوجع وكانت التحليلات السياسية سيدة الموقف إلى جانب صدمة بعض السيدات من موضوع توقيت المدرسة وكيفية إرسال أبنائهم إلى صفوفهم وإلى النشاطات التي باتت تكلفهم ثروة، كل ذلك خيم على أجواء المأتم بدل الحديث عن مآثر وأعمال الراحل الذي خدم وطنه آملاً أن يتركه لأولاده سيداً حراً ومستقلاً، لكنه رحل تاركاً وراءه زوجة وابنتين من ذوي الاحتياجات الخاصة وشاب آثر السفر ككل الشباب اللبناني بسبب الأوضاع المتردية وانعدام فرص العمل، كما ترك أهل الحي الذين سيفتقدون من كان يسهل لهم معاملاتهم، وبلداً مهشماً لا يعرف حكامه سوى النكايات السياسية وجر البلد نحو المجهول غير آبهين بأنين ووجع الناس الذين أوصلوهم إلى قبورهم مثقلين بالقهر والخيبة. ولا يزالون يفتعلون الأزمات الطائفية وإشعال نار الفتن وتجييش من وراءهم للتغطية على فشلهم في إدارة البلاد والمؤسسات والتعمية على أفعالهم وصفقاتهم بدل الإنصراف إلى تحقيق مسار الإصلاحات المطلوبة التي يطلبها المجتمع الدولي، وبعد أن فشلوا في تحقيق ذلك لم يجدوا سوى “الوقت” ملاذاً لهم، على الرغم من تحذيرات مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف من أن الوقت في لبنان بات ضيقاً، وأن الوضع سيئ للغاية ويجب إتمام الإصلاحات وانتخاب رئيس وتشكيل حكومة، كما لم تهزهم تحذيرات وفد “صندوق النقد الدولي” من خطورة الوضع اللبناني. صموا آذانهم عن صرخات الشعب اللبناني وهجرة شبابه وكوادره وأمعنوا يومياً في فصله عن المجتمع الخارجي، وفرغوا البلد من ناسه الطيبين الذين يموتون على أبواب المستشفيات والصيدليات من أجل حبة دواء كما لحقوهم إلى قبورهم متناسين مسؤولياتهم الوطنية التي يجب عليهم القيام بها يومياً شتاءً وصيفاً وفي أي توقيت.
هذه القصص ليست من نسج الخيال إنما من الواقع الذي يعيشه الشعب اللبناني الذي يناضل وسط غابة من اللامسؤولين الذين لا يقبلون إلا بالتسويات والحلول على وقع الإحتدام الطائفي والإنفلات الأمني.