صرف الرواتب على الـ 60 ألف ليرة يفقدها 12% من قيمتها: الحكومة تدور في حلقة مفرغة وأهلاً بالتضخم المفرط
رفع الرواتب سيؤدّي إلى طباعة المزيد من العملات الوطنيّة، في الوقت الذي يرتفع فيه الطلب على الدولار لعدم ثقة المواطنين بعملتهم الوطنيّة، والذين سيحوّلون رواتبهم فور استلامها إلى الدولار، ما سيرفع سعر صرف الدولار في السوق الموازية..
كتبت باولا عطيّة لـ “هنا لبنان”:
“عدّلوا رواتبنا” لتتلائم مع الوضع الاقتصادي الحاليّ، صرخة يطلقها جميع موظفي القطاع العام والخاص على حدّ سواء، تختصر مطالباً محّقة وضعت الدولة بين شاقوفين: حقوق العمّال والموظّفين في القطاعات كافّة والذين تآكلت قدرتهم الشرائيّة بالحدّ الادنى إلى 90%، وخطر رفع نسبة التضخّم، والتي وصلت إلى 189.67%، والذهاب إلى المزيد من الانهيار من جهّة أخرى.
فرفع الرواتب، لا سيّما القطاع العام، سيؤدّي إلى طباعة مصرف لبنان المزيد من العملات الوطنيّة، في الوقت الذي يرتفع فيه الطلب على الدولار لعدم ثقة المواطنين بعملتهم الوطنيّة، والذين سيحوّلون رواتبهم فور استلامها إلى الدولار . ومع رفع الطلب على الدولار سيرتفع سعر الصرف في السوق الموازية. فنعود بذلك إلى نقطة الصفر، كالعالق في نفس الدوّامة، ولا يجد لها مخرجاً.
وبسبب هذه المعضلة، واجه مطلب دفع رواتب العاملين في القطاع العام على سعر صيرفة مشاكل عديدة، فبين من طالب باحتساب الرواتب على سعر الـ45 ألف ليرة بدل الـ90 ألف ليرة(أعلى سعر لصيرفة) لتجنيب الموظفين خسارة 50% من رواتبهم، وعلى رأسهم رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، (ويشمل هذا المطلب الموظفين والمتقاعدين والعسكريين والأساتذة في التعليم الرسمي وأساتذة الجامعة اللبنانية خصوصاً وأنّ الفئة الأخيرة في إضراب مفتوح منذ حوالي الـ4 أشهر) ومن طالب بدولرة الرواتب والأجور وعلى رأسهم متقاعدي المديريّة العامة لأمن الدولة. فيما رفع رئيس “اللقاء الوطني للعاملين في القطاع العام” عماد ياغي كتاباً للأسمر، ناشده فيه بضمّ رواتب العاملين في بلدية زحلة المعلقة وتعنايل، لقرار احتساب الرواتب على سعر منصة صيرفة. ما فتح ملفّ تضمين موظفي البلديّة ضمن قرار دفع رواتب موظفي القطاع العام على سعر الـ45 ألف ليرة.
الحدّ الأدنى للأجور أقلّ من 100$!
وفي السياق ذاته، كان قد أعلن وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم عن رفع الحدّ الأدنى للأجور للعاملين في القطاع الخاصّ إلى 9 ملايين ليرة أي بزيادة 4 ملايين ونصف المليون، وبدل النقل سيُصبح 250 ألف ليرة عن كل يوم حضور، ورفع سقف المرض والأمومة ضعفين، وهذه الزيادات ستكون خاضعة للمراجعات تبعاً لتقلُّبات سعر صرف الدولار لمراعاة العدالة في هذه المسألة.
في المقابل، أكّد وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، أنّ “رواتب جميع العاملين في القطاع العام، سواء في الإدارة العامّة أو المؤسّسات العامّة والمستقلّة، وكذلك القوى العسكريّة، ومعاشات المتقاعدين كافة، ستُحتَسب على سعر صيرفة 60 ألف ليرة للدّولار الواحد”، داعياً المعنيّين كافة إلى “قبض رواتبهم ومعاشاتهم وفق هذا السعر”.
وبخصوص بعض الحالات التي تمّ احتسابُ الرّواتب والمعاشات فيها على سعر صيرفة 90 ألفاً، لفت إلى أنّ “هذا أمرٌ مرتبط بإجراءاتٍ مصرفيّة تمّت قبل الاتفاق على سعر 60 ألفاً، وتتمُّ معالجتُه بين المعنيّ ومصرفه الّذي يقوم بإعادة الفارق إلى صاحب الحقّ فيه”، داعياً الّذين حصلت معهم أمور مماثلة، إلى مراجعة مصرفهم على الفور.
فهل حلّ أزمة الرواتب يكون برفعها؟ وما مخاطر هذه الخطوة على الاقتصاد اللبناني؟ وما مصير رواتب موظفي البلديات؟
في هذا الإطار، لفت عضو لجنة المال والموازنة، النائب ابراهيم منيمنة في حديثه لموقع “هنا لبنان” إلى أنّ “تحديد سعر الصرف الذي سيتمّ وفقه دفع الرواتب والأجور تمّ بشكل استنسابي بناء على مفاوضات، من دون الاستناد إلى أيّ أسس علميّة وبطريقة مرتجلة”، معتبراً أنه “وبغياب الإصلاحات الماليّة، أصبحنا عالقين في دوّامة تعدديّة الصرف، ونستمرّ بصرف الأموال من الاحتياطي بالعملة الصعبة”.
مماطلة في إقرار الخطّة الاقتصاديّة الإصلاحية
وحّمل منيمنة المسؤوليّة بالدرجة الأولى لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي “الذي ينتهج أسلوب المماطلة في إقرار الخطّة الاقتصاديّة الإصلاحية، والبدء بالإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، لجهة إعادة هيكلة القطاع العام، وتوزيع الخسائر، وتوحيد سعر الصرف، والمباشرة بالإصلاحات المالية والنقديّة. وهذه المماطلة تصبّ في مصلحة كبار رؤوس الأموال والنافذين سياسيًّا على حساب فئة أخرى من المجتمع”، مضيفاً “نحن عالقون في حالة مراوحة وعدم جدية بمقاربة الملف الاقتصادي، يصطحبهم مشاريع قوانين واقتراحات مبهمة. وكان صندوق النقد قد لامس عدم جديّة المعنيين في إيجاد حلول للأزمة وعبّر عن هذا الأمر في زيارته الاخيرة إلى لبنان”.
استمرار رفع الرواتب سيؤدّي إلى تضخّم مفرط
ورأى منيمنة أنّ “مشكلة القطاع العام لن تحلّ إلا بتثبيت سعر الصرف، فطالما أنّ الأمور متّجهة نحو الدولرة بشكل ارتجالي دون إصلاحات ولا توحيد لسعر الصرف.. فنحن نأخذ الأموال من جهة ونرميها من جهّة أخرى، وسط عجز المصرف المركزي عن تكديس عملات صعبة لدعم العملة الوطنيّة. وبالتالي نحن نطبع عملات “على الفاضي”.
وحذّر من أنّ “الاستمرار برفع الرواتب دون حلول فعليّة، سيؤدّي إلى تضخم مفرط. حيث 80% من الشعب اللبناني لا يزال يتقاضى رواتبه بالليرة اللبنانيّة. ما قد يرفع من نسبة الفقر، نتيجة تراجع القدرة الشرائيّة للأفراد أكثر وأكثر بفضل التضخّم”.
القطاع العام يعتمد نهج “خذ وطالب”
من جهّته تفاجأ، رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، يوم أمس بطرح دفع رواتب القطاع العام على سعر الـ60 ألف ليرة، كاشفاً في حديثه لـ”هنا لبنان” عن “لقاء جمعه بميقاتي يوم أمس الساعة الثانية ظهراً، جدّد فيه مطلب الاتحاد العمّالي العام باعتماد سعر الـ45 ألف ليرة لدفع الرواتب، بعد أن خسرت هذه الأخيرة 50% من قيمتها مع وصول سعر صيرفة إلى الـ90 ألف ليرة”.
وعلى قاعدة خذ وطالب، يقول الأسمر، “سنقبل بالـ60 ألف ليرة كسعر صرف معتمد لرواتب القطاع العام، إلّا أنّنا سنبقى نطالب بسعر الـ45 ألف ليرة. وهذا القرار جاء بعد سلسلة لقاءات عقدناها مع عدّة نقابات لموظفي القطاع العام. فيما مطلبنا الرئيسي هو اعتماد سعر صرف ثابت، لأنّ رواتبنا لن تأتي بثمار في ظلّ سعر صرف متقلّب صعودا”.
الحوافز الماليّة ستتبخّر
واعتبر أنّ سياسات الحكومة ليست سوى مخدّر موضعي، وعلاجات مؤقتة، تخسرنا أكثر مما تفيدنا كموظفي قطاع عام”، شارحاً أنّه “وعندما كان سعر صيرفة بحدود الـ28 الف وارتفع إلى 40 ألف ليرة، كنّا كموظّفين نخسر قرابة 38% من قيمة رواتبنا. أمّا اليوم وبعد وصول صيرفة إلى 90 ألف ليرة، خسرنا 50% من قيمة رواتبنا المتبقيّة. وإذا استمرّ سعر صيرفة على حاجز الـ90 ألف ليرة، نكون قد خسرنا كلّ ما اتفقنا عليه من زيادات مع الحكومة ومدير الماليّة، حول حوافز الحضور اليوميّ والإنتاجية، والتي تبدأ من 50$ وتصل إلى 300$، قبل أن نتقاضاها. وحتى بعد إقرار الدولة سعر الـ60 ألف ليرة، ما زلنا نخسر 12 %من قيمة رواتبنا”.
ما مصير موظفي البلديات؟
وطمأن الأسمر بأنّه “وبعد إسقاط موظّفي البلديات من الإمتيازات المالية المتاحة لموظّفي القطاع العام عبر منصّة صيرفة، سيتمّ شمل هؤلاء بالامتيازات وسيتقاضون رواتبهم على سعر صرف الـ60 ألف ليرة أسوة بباقي موظفي القطاع العام. وجاء ذلك بالتعاون مع المصرف المركزي، بعد سلسلة لقاءات أجريت الأسبوع الماضي، تلاها تعميم داخلي تمّ إبلاغه للمصارف، وباشر عدد من البلديات من ضمنهم طرابلس وزحلة وبيروت بالاستفادة من هذا الأمر. بالإضافة إلى زيادات المعيشة ومتمّمات الراتب وبدل النقل والحضور التحفيزي، والذي يشمل أيضاً موظفي الدوائر العقارية وهيئة إدارة السير وموظفي السير والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة، والمستشفيات الحكوميّة، وكلّ المؤسسات التي تنطوي تحت تعريف القطاع العام”.
وختم الأسمر “المطلوب اليوم تحديد سعر صرف ثابت ننطلق منه إلى معالجة أزمة رواتب القطاع العام، وإلّا فكلّ الزيادات لن تحقق نتيجة ملموسة. فمع استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية، ستتبخّر هذه الزيادات”، معتبراً أنّ “تثبيت سعر الصرف لا يتأمن إلّا بوجود استقرار اقتصادي والذي بدوره لا يتأمّن إلا باستقرار سياسي، وإلاّ سنستمرّ بالدوران في حلقة سيّئة مدمّرة”.