لبنان بين أسوأ نماذج الدين في العالم: فكم حجمه وهل من إمكانيّة لإعادة هيكلته؟
صُنّف لبنان من بين الدول التي تتّسم بضعف أسواقها الائتمانية واعتمادها المفرط على دعم المقرضين المتعدّدي الأطراف مثل صندوق النقد الدولي، وبأداء متراجع. بعد أن كبّدت سندات اليوروبوندز المستثمرين خسائر فادحة، وساهمت بالقدر الأكبر في التراجع البالغ 0.7% لمؤشر “بلومبرغ” للسندات السيادية للأسواق الناشئة، على غرار كلّ من دولة تونس والأرجنتين ومصر.
كتبت باولا عطية لـ “هنا لبنان”:
سنوات مرّت على إعلان لبنان ولأوّل مرّة تخلّفه عن دفع ديونه، بعد أن علّق سداد سندات اليوروبوند والتي كانت تستحقّ في 9 آذار من العام 2020. لتعتبر الحكومة بتاريخ 16 آذار من العام نفسه، متعسّرة، بعد نهاية فترة السماح التي امتدت على 7 أيام. وأدّى وهذا التخلف عن سداد سلسلة سندات اليوروبوند إلى تخلف عن سداد كافة سندات اليوروبوند المستحقة والتي يبلغ مجموعها 33.5 مليار دولار أمريكي. وكان يتوجب على الدولة اللبنانية تسديد 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند، فيما يرزح لبنان تحت ديون تصل قيمتها إلى 92 مليار دولار؛ مما يشكل نحو 170% من الناتج المحلي الإجمالي، حسب وكالة التصنيف الائتماني “ستاندر أند بورز”، وتعد هذه النسبة من بين الأعلى في العالم.
وأمام هذا الواقع، صُنّف لبنان من بين الدول التي تتّسم بضعف أسواقها الائتمانية واعتمادها المفرط على دعم المقرضين المتعدّدي الأطراف مثل صندوق النقد الدولي، وبأداء متراجع. بعد أن كبّدت السندات الدولارية للبنان المستثمرين خسائر فادحة، وساهمت بالقدر الأكبر في التراجع البالغ 0.7% لمؤشر “بلومبرغ” للسندات السيادية للأسواق الناشئة، على غرار كلّ من دولة تونس والأرجنتين ومصر. حيث فقدت سندات دولتي مصر وتونس ما يعادل 9% من قيمتها الشهر الجاري، بينما سجّلت الديون من لبنان والسنغال وكينيا خسائر في نطاق 5%، وفق بيانات جمعتها “بلومبرغ”. ليتصدّر لبنان بذلك المرتبة الرابعة من بين الأسواق الناشئة الأقلّ جاذبيّة. مع إجمالي عوائد -5.1 في شهر نيسان.
وكان قد صرّح كبير باحثي قسم الائتمان لدى REDD Intelligence، مارك بولاند، بأنّ “الكثير من الدول بحاجة للأموال الآن وإلا فستضطر للاقتراض بأسعار فائدة عالية للغاية سواء محلياً أم خارجياً، وإذا اقترضت بأسعار السوق العالية الحالية، فسيزداد الطين بلّة”.
فما هي سندات اليوروبوند؟ وكم يبلغ حجم الدين العام في لبنان وكيف يمكن إعادة هيكلته؟
اليوروبوند هي عبارة عن سندات خزينة صادرة بالدولار، تلجأ إليها الدولة كأداة للاستدانة لسدّ عجز ما، أو تمويل مشاريع. أوّل قرار بالاستدانة للبنان كان في 1992 في عهد حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وظلّ لبنان قادراً على سداد ديونه حتى عام 2019 بعد تفاقم الأزمة الاقتصاديّة.
الاقتراض كان لأغراض استهلاكيّة وليس استثماريّة
في هذا الإطار يقول الخبير المالي بهيج الخطيب في حديثه لموقع “هنا لبنان” إنّ “هناك الكثير من الدول التي تعاني من عجز في موازنتها، فحتى دول الخليج والتي لديها فائض في الإيرادات النفطيّة تعاني من هذا العجز وتلجأ إلى الاستدانة. ولكن يكون لهذه الدول خطط حكوميّة واضحة، وحكم سليم، وقيادة رشيدة وحاسمة، تسمح لها بالاقتراض والتمكّن من تسديد الدين في أوقات لاحقة. فيما أسباب الاستدانة تختلف من بلد لآخر. ففي مصر مثلاً هناك نزف كبير في الاقتراض لتغطية نفقات الدعم للأسر الفقيرة، وللاستثمار في مشاريع عملاقة كالقاهرة الجديدة، ومشاريع الكهرباء، ما فرض على الدولة الاقتراض لأجل طويل، إلا أنّه وبفضل الحكم الرشيد والحاسم، تضع الدولة خططاً لإعادة تسديد الديون. فيما الأرجنتين، وضعها شبيه إلى حدّ كبير بلبنان، بسبب نسبة الفساد المرتفعة”.
وعن لبنان يقول الخطيب، إنّه “حالة خاصّة، حيث يجمع بين الحاجة إلى سدّ فجوة التمويل في موازنة الدولة، والتي نتجت منذ الـ1992 وحتى اليوم عن السياسات الماليّة الفاشلة لكلّ الحكومات المتعاقبة، والفساد والهدر والنهب المقونن، والاقتراض لأغراض استهلاكيّة، وليس استثماريّة. فالدولة عندما تقترض للاستثمار، فهي تقوم بمشاريع عملاقة وكبيرة، كالسدود والطرقات والمستشفيات والمدارس والمطار والمرافئ، ما يؤمّن لها عوائد من هذه المشاريع تسمح لها بتسديد ديونها. فيما في لبنان كنّا نقترض لـ3 أغراض، تشكّل 90% من موازنة الدولة وهي: دفع رواتب القطاع العام (30%)، تسديد خدمة الدين (30%)، وتمويل عجز الكهرباء والفيول (30%)، فيما الـ10% المتبقيّة تذهب لنفقات استثماريّة، والتي ينهشها النهب المقونن”.
ويتابع “كلّ ما تقدّم أدّى إلى تراكم الدين العام، في ظلّ غياب أيّ خطّة لمواجهة هذا الدين، الذي لم يعد لدينا القدرة على تحمّله. في المقابل حاول المصرف المركزي الألماني التواصل مع لبنان، واتصلوا بي شخصياً عبر اتّحاد المصارف العربيّة، وقمت بالتنسيق مع مصرف لبنان، ونائب الحاكم، ومدير العمليات الماليّة الذي أصبح وزير الماليّة الحالي في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، ومع رئيس إدارة خدمة الدين العام، وحاولنا وضع خطّة للاستفادة من تجربة الألمان في الـdead sustainability ، إلا أنّ كلّ هذه المحاولات باءت بالفشل”.
كم يبلغ حجم دين لبنان الحالي؟
وعن حجم الدين العام يلفت الخطيب إلى أنّه “وقبل الإنهيار النقدي وصل إلى 98 مليار دولار، وبعد الانهيار تخطّى 103 مليار دولار، لكنّ هذا المبلغ يجمع جزأين: اللبناني، والدولار. فالجزء بالدولار يصل إلى 40 مليار، والقسم اللبناني يصل إلى 63 مليار دولار. وهي ديون بالليرة اللبنانيّة مقوّمة بالدولار، على سعر صرف 1500 ليرة. وإذا أردنا احتساب هذا المبلغ بالدولار وفق سعر السوق الموازية، أي 95 ألف ليرة للدولار، يصبح المبلغ 600 مليون دولار. وهذا الدين يشكّل أكثر من 200% من حجم الاقتصاد اللبناني”.
خطوات رحلة السداد
وعن إمكانيّة إعادة جدولة هذا الدين وتسديده يرى الخطيب أنّه “إذا كانت الدولة اللبنانيّة تملك الإرادة، فبإمكانها إعادة هيكلة وجدولة الدين العام، أمّا بعدم وجود خطّة فعبثاً نحاول. والمطلوب انتخاب رئيس جمهوريّة من خارج المنظومة السياسيّة التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه، وتشكيل حكومة نظيفة على ألا تفرضها الجهات السياسيّة الفاسدة نفسها، ووضع خطّة إصلاح اقتصادي وتعافٍ، على أن يوافق عليها صندوق النقد الدولي والجهات المانحة الأخرى، ومن هنا تبدأ رحلة السداد. كيف؟ على الدولة أوّلاً دعوة الجهات الدائنة وحملة اليوروبوند، للجلوس على طاولة المفاوضات ووضع خطّة السداد. مع اعتراف الدولة بهذه الديون، ووجوب تسديدها ضمن الخطّة الموضوعة. وهذه الأخيرة يجب أن تقوم على تصفير الفوائد من الجهتين: الدائن والمدين، أي الاتفاق على عدم تركيم الفوائد من الآن إلى 3 أو 5 سنوات، وبالمقابل لن تعطى أيّ فوائد للمودعين، وتكون الدولة بذلك قد جمّدت حجم الديون على المستوى الذي هي عليه ونتفق على فترة سماح، مفادها أنّ الدولة لن تبدأ بتسديد ديونها قبل 3 سنوات، تكون خلالها الدولة قد بدأت بوضع جداول من قبل وزارة المالية بالتعاون مع مصرف لبنان، تشمل الاستحقاقات الأوليّة للديون التي كانت استحقاقاتها الأقرب، وتستمرّ تدريجياً لتشمل الاستحقاقات التي ستتوجّب في الـ2037. مع موازنة تتضمّن فوائض، في ظلّ وجود فرص كبيرة للبنان تسمح له بتحسين ايراداته، على غرار الـ1997، وهذه الفوائض، تبدأ منها رحلة السداد التدريجي، على طريق النسبويّة. أي تسديد نسبة مئويّة سنويّة من حجم الدين بشكل تدريجي. وبهذا الشكل تكون الدولة قد سدّدت ديونها، والمودعون قد حافظوا على أموالهم”.