أزمة الطائف… مع الطائفية
المشكلة ليست في الطائف عينه، لأن إرادة الطائف لم تكن سوى إنهاء الحرب، وطمأنة الهواجس المختلفة.
المشكلة هي في مداولات الطائف التي لم تكشف من هو المشرع الذي لم يشأ وضع آليات تطبيقية للعديد من بنود الطائف، فانتهت الحال به أمنيات كتلك التي ترافق بيانات الأمم المتحدة عند حصول النزاعات
كتب جان نخوّل لـ”هنا لبنان”:
مع احتفال المملكة العربية السعودية بعيدها الوطني، والاحتفال الذي أقيم في بيروت لهذه المناسبة، وتداعت إليه شخصيات سياسية ممن يدورون في فلك المملكة سياسياً، كثرت التصريحات عن دور المملكة في الحفاظ على وحدة اللبنانيين، وفي الوقوف إلى جانبهم ودعم أبنائهم في كل أصقاع الأرض، وهذا أمر لا شك فيه على الإطلاق.
وكما في كل مرة تكون فيه المناسبة مرتبطة بشكل أو بآخر بالمملكة العربية السعودية، يعود الحديث عن التمسك باتفاق الطائف، أو على الأقل التمسك بتطبيقه كاملاً قبل البحث عن بديل، وذلك في المساعي المستمرة منذ ما لا يقل عن خمسين عاماً، عن مخرج للصيغة اللبنانية بأزماتها المتمادية.
لكن المشكلة مع الطائف فعلياً، خصوصاً لدى من هم من دعاة العروبة المستمرة، ليست في عدم تطبيقه، بل في استحالة ذلك.
الطائف نصّ أولاً على انتماء لبنان العربي وانتسابه إلى جامعة الدول العربية والالتزام بمواثيقها، والتمسك بمبدأ عدم الانحياز. نصوص تقترب من فلك الشعرية في حين أنّ الحقيقة، على الأقل في مرحلة ما بعد ٢٠٠٥ لم تظهر أي تمسك بقرارات الجامعة العربية، وهذا ما كان واضحاً في عهد جبران باسيل في وزارة الخارجية مع بدايات الأزمة السورية، ولا في مرحلة ما بعد الأزمة مع التمايز اللبناني عن المواقف العربية، والمشاركة الفاعلة لحزب الله في القتال، الذي نسف من ناحيته مبدأ عدم الانحياز.
يأتي البعد معطوفاً على قضية السلاح وطرق تفسيره المختلفة، الذي انتهى بإبقاء سلاح حزب الله مقابل تجريد الميليشيات الأخرى من السلاح، بحجة استمرار الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.
وفي النقطة السادسة من اتفاق الطائف، حديث عن موضوع الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية والملكية الخاصة، وهي عناصر شكلت جوهر الاقتصاد اللبناني، الذي يتعرض لكل أنواع الانتهاكات لا بل النحر منذ ثورة ٢٠١٩، بحجة البحث عن عدالة اجتماعية مفترضة لم تتمكن الدول الاشتراكية في ذروة نشاطها من بلوغه، عدا عن نسف الإنماء المتوازن فكرةً وتطبيقاً.
أما في النقاط المرتبطة بالصلاحيات المعدلة لكل من مجلس النواب ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، فهنا بيت القصيد والقطبة المخفية في استحالة تطبيق الطائف.
في البند السابع من النقطة الثانية في اتفاق الطائف، حصل اتفاق على استحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، على أن يحصل ذلك مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي.
ناقضت هذه النقطة جوهر النقطة التي سبقتها التي قسمت المقاعد النيابية طائفياً، ونسبياً بين الطوائف، في تناقض واضح تغاضى عنه المشترع لمصلحة اتفاق أميركي سوري ورعاية سعودية بضرورة إنهاء الحرب.
الأهم من ذلك أن الاتفاق لم يتحدث عن كيفية حصول الانتخابات على أساس لا طائفي. هل هو على أساس المحافظة دائرة انتخابية كما نص الطائف، أو على أساس لبنان دائرة واحدة كما يطالب الثنائي الشيعي باستمرار وتحديداً رئيس مجلس النواب نبيه بري، أو على أساس تقسيمات أخرى؟
ومتى استحدث مجلس الشيوخ، من يحل المشكلة القائمة حول رئاسته. فاتفاق الطائف تغاضى في مكان ما عن ذكر تفاصيل مجلس الشيوخ، ولم يحدد الهوية الطائفية لرئيسه، وعدد أعضائه، وتقسيمهم وطبيعة القضايا المصيرية التي سينشغلون بها. هل هذه القضايا منحصرة بالسلم والحرب؟ ما دور الحكومة في هذه الحالة إذاً؟ هل القضايا المصيرية يقصد بها التعديلات الدستورية الكبرى؟ ما دور مجلس النواب ورأي الناخبين في هذه الحالة؟ تزيد الاحتمالات وصولاً إلى إمكان إدراج المواضيع الاجتماعية التي شغلت الرأي العام في الفترة الماضية، من فيلم باربي إلى تجريم المثلية، ضمن خانة القضايا المصيرية، لأن أي مسألة تضاف إليها عبارة الأمن القومي أو تهديد الوحدة الوطنية، تصبح ذات أهمية كبرى في نظر اللبنانيين.
الأهم من كل ذلك، أن اتفاق الطائف الذي سعى إلى الوصول إلى الجمهورية الفضلى بمجلس منتخب على أساس غير طائفي، لم يحسب أن الحرب ستكون حامية بين الطوائف على رئاسة مجلس النواب، ضمن الكوتا الطائفية القائمة من أعلى الرئاسات إلى أرض حراس الأحراج في لبنان.
هل سيرأس المجلس درزي، وهو أمر منطقي اعتباراً من أن الدروز رابع أكبر الطوائف في لبنان، ويريدون رئاسة لأنفسهم رداً على الظلم الذي لحق بهم في مواقع الدولة؟
أم أن رئاسة المجلس ستكون أرثوذكسية، باعتبار أن الأرثوذكس لم يحصلوا إلا على نيابات الرئاسات، وهم ثاني أكبر الطوائف المسيحية بعد الموارنة. والأهم، أن عدم حصولهم على المقعد، سيجعل المسلمين مترئسين ثلاثة مواقع حساسة، وهي رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء ورئاسة مجلس النواب، مقابل رئاسة الجمهورية للمسيحيين، وهو ما يخلق فقداناً للتوازن بين الطوائف، ويناقض العيش المشترك الذي سعى الطائف نفسه إلى الوصول إليه.
المشكلة ليست في الطائف عينه، لأن إرادة الطائف لم تكن سوى إنهاء الحرب، وطمأنة الهواجس المختلفة.
المشكلة هي في مداولات الطائف التي لم تكشف من هو المشرع الذي لم يشأ وضع آليات تطبيقية للعديد من بنود الطائف، فانتهت الحال به أمنيات كتلك التي ترافق بيانات الأمم المتحدة عند حصول النزاعات.
قد يكون اتفاق الطائف الفرصة الأخيرة لدى اللبنانيين للحفاظ على الحدود الحالية للبنان الكبير، فأي صيغة أخرى ستعيد رسم الخرائط تحت وقائع الأرض وتبدلات الشعوب؟ ولكن المشكلة في تطبيق الطائف هي في ما حاول أن يخفف منه بذاته في النص، وهو الطائفية.
مواضيع مماثلة للكاتب:
رئيس لبنان ينتظر عند معبر رفح | بين اغتيالات الرأي… وما يعقبها من ثورات | وطن على حدود النار والقدر |