صواني بكركي وصواريخ الضاحية
صواني بكركي هي من أجل الجنوب وتالياً من أجل كلّ لبنان، أمّا صناديق تبرعات “الحزب” فهي من أجل تمويل الحرب. وبينما تسعى الصواني إلى منح المتضرّرين من أعمال الحرب فرصة الحياة، تتحوّل صناديق “الحزب” إلى نعوشٍ تضمّ أجساد الشباب الذي جرى جمع التبرعات من أجل “تجهيزهم” بالثياب العسكرية.
كتب أحمد عيّاش لـ “هنا لبنان”:
مرّ أمس الأحد “اليوم العالمي للفقير”، وهذه المناسبة أطلقها بابا روما فرنسيس بعنوان “لا تحوّل وجهك عن الفقراء”. أمّا البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، فاختار أن تكون المناسبة من أجل “لمّ الصواني” في الكنائس في هذا اليوم من أجل تقديمها للنازحين من الجنوب.
كم كان الراعي مُوفّقاً في توظيف هذه المناسبة التي يُحييها مئات الملايين من أتباع الفاتيكان في العالم من أجل مدّ يد العون إلى المنكوبين من أحداث الجنوب. فهؤلاء الجنوبيون، لا دولة ترعاهم، ولا جهات تأخذ هذه المنطقة إلى الحرب مجدّدًا تأبه لهم. فهل من ضيرٍ بأن تقوم الكنيسة بجهدٍ إغاثيٍّ على هذا المستوى؟
على ما يبدو، أنّ أحد الإعلاميين في مؤسسة قريبة من “حزب الله”، لم يَرُق له الأمر، ما أطلق حملة منتقدة للرّاعي على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الأفكار التي ردّدها المُشاركون في الحملة، “إنّ لمّ الصواني استصغارٌ لأهل الجنوب”. واحتاج سُعاة الخير وقتاً كي يوضحوا أنّ “لمّ الصّواني” هو جزءٌ من طقوس الكنيسة على مرّ الزمن.
على الضفة الثانية من الجدل، تبثّ وسائل إعلام “حزب الله” في هذه الأيّام إعلاناً يدعو إلى جمع التبرّعات من أجل كسوة مقاتل “الحزب” بالثياب العسكرية. ومثل هذا الإعلان لم يأتِ في ظلّ الجبهة المفتوحة حالياً نتيجة تداعيات حرب غزة، وإنّما هو امتدادٌ لتقليد اعتمده “حزب الله” في أعوام سابقة. فهو مثلاً أطلق في العام 2019 مشروع “تجهيز مجاهد”. وبلغت في ذلك الوقت كلفة “تجهيز” كل مقاتل، مليون وخمسمئة ألف ليرة لبنانيّة، أي ألف دولار باعتبار أنّ سعر صرف الدولار في ذلك العام كان 1500 ليرة.
هي تقاليد تعكس اهتمامات أصحابها. فبكركي مهتمّة بنتائج الحرب وما يشبهها كما يحصل الآن في الجنوب. أمّا “حزب الله” فيضع اهتمامه بالسلاح والحرب التي ستبقى بحسب عقيدته حتى تحقيق أهداف تتجاوز لبنان والمنطقة لتصل إلى حدّ تغيير الجغرافيا التي أتت بها نتائج الحرب العالمية الأولى عام 1914.
لو وضعنا جانباً الجدل الذي رافق تعبير “لمّ الصواني”، واستُبدل بالسؤال عمّا ستحقّقه حملة الكنيسة لجمع التبرعات كي تساهم بالتخفيف من أعباء نازحي الجنوب؟ يجيب البطريرك في عظة الأحد الأخيرة أنّها حملة تلاقي معاناة بلدات الشريط الحدودي حيث نزح منها 70 بالمئة من سكّانها إلى بيروت وكسروان وجبيل بعدما أقفلت مدارس تلك البلدات. وبالتالي ، يمكن الوثوق بأنّ نتيجة الحملة ستترك أثراً في زمن العوز الذي وصل إليه لبنان منذ العام 2019. وبكلّ تأكيد أيضاً، يمكن القول إنّ نازحي الجنوب، ومثلهم الكثرة الساحقة من مواطنيهم في كلّ لبنان، باتوا في أمسّ الحاجة إلى “فلس الأرملة” الذي أطلق من أجله البابا فرنسيس في 19 تشرين الثاني عام 2017 فاعليات “اليوم العالمي للفقر”.
وفي المقابل، هناك فضول لمعرفة آثار التبرعات التي يجمعها “حزب الله” من أجل المجهود الحربي بناءً على الاستراتيجية الإيرانية المعمول بها منذ العام 1979 تاريخ قيام الجمهورية الإسلامية التي أنشأها الإمام الخميني.
لا مُغالاة في القول أنّ صواني بكركي البارحة هي من أجل الجنوب وتالياً من أجل كلّ لبنان. أمّا صناديق تبرعات “الحزب” فهي كما هو معلن، من أجل تمويل الحرب. وبينما تسعى الصواني إلى منح المتضرّرين حاليًّا من أعمال الحرب في الجنوب فرصة الحياة، تتحوّل صناديق “الحزب” إلى نعوشٍ تضمّ أجساد الشباب الذي جرى جمع التبرعات من أجل “تجهيزهم” بالثياب العسكرية.
ما طلبته بكركي في “اليوم العالمي للفقر” هو المساعدة على انتشال نازحي الجنوب قدر الإمكان من موتٍ اقتصادي. أمّا ما طلبه “الحزب” ولا يزال، فهو إعداد الأكفان في حربٍ تُشبه الإعصار الذي يقتلع كل شيء، كما بدأ يظهرعلى امتداد أكثر من مئة كيلومتر من الحدود المشتركة بين لبنان وإسرائيل.
من هنا تبدأ المفارقات. ولعلّ الشعور بـ “الاستفزاز” الذي انتاب بعض بيئة “الحزب” عندما ظهرت دعوة “لمّ الصواني”، هو انعكاس لذهنيةٍ انتصاريةٍ لا تأبه بالموت ولو أتى، ولا بالخراب ولو حلّ، ولا بفقرٍ نجم عن الاقتلاع من الأرض. لكنّ هذه الذهنية لا تمثّل لبنان الذي عرف عبر تاريخه قبل أن تولد خرائط الحرب العالمية الأولى ثقافة العيش من أجل البقاء ومقاومة الاقتلاع الذي رافق الأمبراطوريات التي مرّت بهذه الأرض.
لا داعي للتبصير لمعرفة أيّ مشروع سيكتب له النجاح، “صواني فلس الأرملة” أم صناديق تجهيز قوافل الضحايا في حروب الآخرين على أرض لبنان. فقط فلنتمتع بالبصيرة كي نقارن بين “صواني” بكركي وبين صواريخ الضاحية.
مواضيع مماثلة للكاتب:
تفاؤل بري وابتسامة لاريجاني | “مرشد” لبنان و”بطريرك” إيران | تفليسة “تفاهم” مار مخايل في عملية البترون |