لغم في المَزارع يفجِّر وساطة هوكشتاين
عندما يحين الوقت، يصبح الحل سهلاً في المزارع: إما باعتراف الأسد بلبنانيتها، وهذا احتمال ضعيف، وإما باقتسامها بين البلدين كما هو مرجح
كتب طوني عيسى لـ “هنا لبنان”:
في مهمته الأخيرة في بيروت، قبل أيام، جاء الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين يعرض على اللبنانيين ترسيماً للحدود مع إسرائيل، ضمن ترتيبات أمنية متكاملة. وارتأى أن يقتصر الترسيم على النقاط الـ13 المختلف عليها، بدءاً من النقطة B1، على أن يؤجل البحث في مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا إلى مرحلة لاحقة. وكان الرجل قد تلقى إشارات عبر بعض الأقنية بأنّ المرجعيات اللبنانية الرسمية، المعنية بالتفاوض، يمكن أن تقنع “حزب الله” بتسوية من هذا النوع، خصوصاً بعدما تنازلت إسرائيل عن مطلبها الأساسي، انسحاب مقاتلي “الحزب” إلى ما وراء خط الليطاني، تنفيذاً للقرار 1701، واكتفت بترتيبات تنص على انسحابهم لبضعة كيلومترات عن الحدود.
في الأسابيع الفائتة، كان هوكشتاين يتجنب المجيء إلى لبنان ما لم تكن هناك معطيات تسمح له بتحقيق إنجاز معين. ولذلك، أوحت زيارته لبيروت يوم الخميس الفائت أن ترتيبات التسوية على الحدود اللبنانية باتت ناضجة، وأن ولادة الاتفاق على ترسيم الحدود البرية ممكن. وهو يراهن على أن إسرائيل سوف ترضخ للضغوط الأميركية والتزام وقف النار في غزة والانتقال إلى الحلول الديبلوماسية، في أقرب فرصة. وهذا أمر يسهّل على “الحزب” أن يمضي في اتفاق الترسيم.
أراد الوسيط الأميركي أن يكون الاتفاق جاهزاً، بحيث يتم توقيعه فور الإعلان عن إنهاء القتال في غزة. ولكن، ما حصل في بيروت لم يكن في حسابه، إذ فوجئ بأنّ الجانب اللبناني يخبئ طرحاً جديداً أعاد الأمور إلى النقطة الصفر.
لم يفاجأ هوكشتاين برفض الرئيس نجيب ميقاتي إقرار اتفاق الترسيم إلا بعد وقف القتال في غزة. فهو يعرف جيداً أنّ القرار الحقيقي في هذا الملف يحسمه “حزب الله”. بل فوجئ بأنّ لبنان يشترط أن يكون انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا جزءاً من الاتفاق الموعود. وعندما تبلغ هوكشتاين هذا الشرط، أبلغ محاوريه أنه سيوقف وساطته، ولن يستأنفها قبل أن تطرأ معطيات جديدة على الموقفين اللبناني والإسرائيلي تسمح بإنجاز خطوات عملية.
فالجميع يعرف أنّ مسألة المزارع يكتنفها الغموض منذ ربع قرن، وتصطدم بتعقيدات مثلثة الجوانب، بين لبنان وسوريا وإسرائيل، وأنها تنطوي على الكثير من الألغاز والألغام. ويمكن القول إنّ الظروف التي ستسمح بحل هذه المسألة، ستتيح أيضاً إنهاء كل الأزمات التي يعيشها لبنان من سياسية وأمنية واقتصادية، للأسباب الآتية:
1- حل مسألة المزارع مع إسرائيل ضمن ترتيبات متكاملة، مضمونة دولياً، ينهي تماماً الوضع الاستثنائي الذي يعيشه الجنوب اللبناني منذ عقود، ويعيده منطقة لبنانية آمنة ومستقرة ولا تتأثر بالنزاعات الإقليمية.
2- حل هذه المسألة سيكون ركيزة أساسية لحل أزمة ترسيم الحدود في العديد من النقاط مع سوريا، بما فيها تلك التي تحولت معابر تهريب تاريخية، للبضائع والسلاح والممنوعات والأشخاص. وكذلك، سيكون مدخلاً إلى ترسيم الحدود البحرية عند بلوكات الغاز الشمالية، التي لا يمكن للبنان استثمارها إلا بترسيم مماثل لذاك الذي جرى في بلوكات الجنوب.
3- يمثل حلّ مسألة المزارع زوال المبرر الذي رفعه “حزب الله” للاحتفاظ بسلاحه، بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب في العام 2000. وفي هذه الحال، سيزول الخلاف الذي يقسم اللبنانيين عمودياً، ويسهل تقوية الدولة المركزية وجيشها وأجهزتها، فتفرض سيادتها وحدها على الأراضي اللبنانية. وهذا هو المدخل إلى خروج لبنان من أزماته كافة.
بالفرنسية يقال: c’est trop beau pour être vrai (هذا أجمل من أن يكون صحيحاً). وفي الواقع، عندما يشترط لبنان على هوكشتاين أن يكون حل أزمة المزارع هو أساس أي اتفاق في الجنوب، فترجمة ذلك بالمعنى الديبلوماسي، وضمن المعطيات السائدة، أنّ الحل في مفهوم “حزب الله”، لم ينضج بعد.
لقد طرح الجانب اللبناني على هوكشتاين أن تنسحب إسرائيل من المزارع، ليجري وضعها تحت رعاية الأمم المتحدة لفترة موقتة، في انتظار اتفاق بين لبنان وسوريا على تحديد هويتها. وهذا الطرح ليس جديداً، إذ تقدمت به حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000، لكن الإسرائيليين أصروا على اعتبار المزارع جزءاً من الجولان، وربطوا مصيرها به. ومن الصعب الرهان على سلامة نية إسرائيل ورغبتها في تقديم خدمة للبنان وسوريا من دون ثمن مناسب.
لكن المشكلة الأكبر في هذا الملف تكمن في الموقف السوري. فحتى اليوم، ترفض دمشق تزويد الأمم المتحدة بأي وثيقة تعترف بلبنانية المزارع. وهنا يمكن الاستعانة بشهادة فريدريك هوف، المبعوث الأميركي المكلف بمفاوضات السلام السورية- الإسرائيلية بين 2009 و2011. فهو أصدر كتاباً، العام الفائت، روى فيه تفاصيل وقائع من مهمته، وأورد فيها أنّ الرئيس السوري بشار الأسد أبلغه في شباط 2011 أنّ هوية المزارع سورية لا لبنانية. لكن المسؤولين السوريين قالوا في مناسبات أخرى، علنية، أنهم يدعمون موقف لبنان. ولكنهم لم “يورّطوا” أنفسهم باعتراف مكتوب أو موثق رسمياً.
وهنا تكمن ألغاز المزارع وألغامها. فهذا “الغموض البنّاء” في الموقف السوري مدروس جيداً داخل المحور نفسه: “حزب الله” يتمسك بالسلاح حتى تحرير المزارع لأنها لبنانية، فيلاقيه الأسد بعدم تقديم اعتراف بأنها لبنانية. وهكذا، يصبح السلاح عالقاً بين تضاريس المزارع حتى إشعار آخر، أي حتى اللحظة التي يجد فيها “الحزب” ودمشق وطهران معاً أن الثمن قد بات مناسباً، وأن الوقت قد حان لإبرام تسوية.
عندما يحين الوقت، يصبح الحل سهلاً في المزارع: إما باعتراف الأسد بلبنانيتها، وهذا احتمال ضعيف، وإما باقتسامها بين البلدين كما هو مرجح. وحينذاك، سيسهل “حزب الله” ولادة الاتفاق بإعلانه أنه يقف خلف الدولة اللبنانية ويدعمها في مفاوضاتها وسيوافق على كل ما تراه مناسباً، كما فعل عندما سهّل ولادة الترسيم البحري.
وحينذاك سيقال: لا مشكلة في أن يتنازل لبنان لسوريا عن بعض الأرض من أجل تسهيل الحل في البر، وهو الذي تنازل لإسرائيل ذات يوم عن بقعة أكبر بكثير في البحر، من أجل تسهيل التسوية في ملف الغاز.
مواضيع مماثلة للكاتب:
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | لا سلاح في شمال الليطاني أيضاً | استنفار قيادي درزي منعاً لأي مغامرة |