حين ينتهي الدرس
في لبنان، الحقيقة قبل انتخاب رئيس لن تكون هي نفسها بعدها، فلا جهد اللجنة العربية الخماسية ولا توافد الموفدين عربا وعجماً، سيؤدي إلى تحقق “أمنية” اللبنانيين في التعرف إلى رئيسهم الجديد
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
كان “أستاذ الرياضة” ملتزماً حزبياً وأحد أبرز محركي الإضرابات في مدرستنا، لأسباب عقيدية أحياناً، ولارتباطات شخصية أحياناً غيرها، شرط أن يكون الجو السياسي العام يشجع على تنفيذها، وفق وقائع الصراع الداخلي، الذي كان في تينك الأيام، يتظلل الديموقراطية، ولو بالظاهر.
كان التلامذة يجدون في الإضراب، والتظاهر، فرصة للهروب من الواجبات المدرسية، ويطمئنون إلى قدرة أستاذ الرياضة على إقناع المدير بعدم إنزال العقوبة التعليمية بأي منهم، لا سيما “النخبة”، كاستدعاء الأهل، والحسم من العلامات الشهرية وغير ذلك: كان يوم الإضراب يوم عطلة مقنّعة إضافية، ومشكلة إغفال دروس هي مسؤولية الإدارة التعليمية لاستدراكها.
كان الجميع، من معلمين وإدارة وطلاب وأهاليهم يعرفون من يقف وراء إضراب اليوم، وقبله وبعده، ولا يملكون سوى “النق” واستهوال تأثيره على مستوى التعليم، وارتداداته على الحياة اليومية للعائلات، ومستقبل البلاد، والدليل إلى ذلك ما شهدناه منذ ما قبل منتصف السبعينات إلى اليوم.
ما يحيل على الاهتمام بالإضرابات تلك، أننا لا نزال نعتمدها بصيغ مختلفة كالتمنع، والانكفاء و”اعتقال” النصاب، والشروط الديكتاتورية لحضور جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، في أسلوب مماحكة سياسية، نتجاهل ارتداداتها السلبية والتدميرية، مهما فاقمت من تدهور سوء الأحوال، وليس أدلّ إلى ذلك من تحويل غياب رئيس منتخب للجمهورية إلى مسلّمة، يغذيها الإصرار اللفظي التمويهي على إنعقاد جلسة نيابية تكرس لذلك دون أي أمر آخر، تحت عنوان أولوية انتخاب الرئيس على كل شأن.
ينقض هذا الموقف المروج له إقرار الموازنة العامة برعاية “أستاذ” التشريع في المجلس، الذي لا يخيب الظن في قدرته، كالفاخوري، على وضع أذن الجرة حيث يريد، وتبريد الأمور وتسخينها متى يشاء، وكيفما يستنسب، حتى بات للدستور اللبناني ملحق غير مقرر، تراكمت صفحاته في ملحق غير معنون كتبته ما تسمى بالضرورات الاستثنائية.
من يصغي إلى مداخلات النواب، لا سيما الوزير السابق جبران باسيل يظنه غير متابع لوقائع أزمة رئاسة الجمهورية، وجاهلاً بالوقائع السياسية المحيقة بها منذ خروج عمه العماد السابق ميشال عون من قصر بعبدا في 30 تشرين الأول 2020، جذلاناً بما “بشّر” به من جهنم بعده، على ما قال حينذاك. وهو كمن يرتكب، مع آخرين، جريمة، ولا يني يكرر اتهام خصومه بها، بفجور سياسي غير مسبوق: يحرف الحقيقة عن وقائعها، فيتهم حكومة تصريف الأعمال بأنها تستولي على صلاحيات رئيس الجمهورية، كأنّ رئيسها نجيب ميقاتي حضّر الكمائن للوصول إلى المأزق الرئاسي، وليس حلفاء باسيل الذين أوصلوه على رؤوس بنادقهم إلى ما وصل إليه من سطوة سياسية انفضحت حين رشحوا الوزير السابق سليمان فرنجية للرئاسة.
يرى باسيل، في خطابه في مجلس النواب، أنّ “عدم وجود رئيس للجمهورية هو تغيير غير معلن للنظام وهدم لإتفاق الطائف وضرب للشراكة الوطنية وتهديد للدولة اللبنانية”، من دون أن يسمي من أوصل البلاد إلى هذه الحال، ومن يتفنن في إلقاء المسؤولية على مجهول، متوارياً خلف عناوين براقة لم تعد تنطلي حتى على جمهوره السياسي، وجمهور حلفائه الذين يتجاهل أنهم الأبرز بين من يهددهم بأنه سيتصدى “لكل الممارسات التي تساهم في هدم الدولة” و”سيطالب باحترام إتفاق الطائف حتى تطويره بالتوافق والتفاهم”، والأمر الأخير يذكرنا بقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت إن”الحقيقة قبل (جبال) البيرينيه غيرها بعدها”، وفي لبنان فإن الحقيقة قبل انتخاب رئيس لن تكون هي نفسها بعدها، فلا جهد اللجنة العربية الخماسية، ولا اجتماع السفير السعودي بزميله الايراني في خيمة الأول، ولا توافد الموفدين عربا وعجماً، ستؤدي جميعا مجتمعة أو متفرقة إلى تحقق “أمنية” اللبنانيين في التعرف إلى رئيسهم الجديد، لأن من أراد الفراغ الدستوري في لبنان فرضه لتكون له اليد الطولى في قرارات دولته، وهو لم يتمكن بعد من فرض رأيه، وليس لدى مجموعة الـ 5 ما تتنازل عنه وتأتي بالدب إلى كرم العرب، وحين ينهك الجميع سيلوح “الأستاذ” للجميع بأن الدرس انتهى.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |