الراعي المرشد والسيّد الغاضب
هناك انقسام حاد بين دعاة تجنيب لبنان ويلات الحروب وعلى رأسهم البطريركية المارونية، وبين “الحزب” الذي يمضي بلا هوادة نحو زجّ لبنان في أتون المخطط الإيراني
كتب أحمد عياش لـ”هنا لبنان”:
في إطلالته الغاضبة يوم الجمعة الماضي، كما ظهر في الصوت والصورة، قال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله: “نساؤنا وأطفالنا الذين قُتلوا في هذه الأيام في النبطيّة وفي الصوّانة وفي غيرها من قرى الجنوب سوف يدفع العدو ثمن سفكه لدمائهم دماءً”.
وأمس، أطل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد قائلاً: “علّمنا الرب أن نستبدل شريعة العين بالعين والسن بالسن بشريعة المحبة”.
ليست هي المرة الأولى التي يقف البطريرك الراعي والسيد نصرالله على طرفي نقيض. كما أنها لن تكون المرة الأخيرة في المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان. أما هذا التناقض الأخير الذي ظهر إلى العلن مجدداً بين رأس الكنيسة المارونية وبين الأمين العام لـ “الحزب”، فهو لم يأت من فراغ. فقد بادر نصرالله في إطلالته الأخيرة إلى التصويب على المطارنة الموارنة من دون أن يسميهم على خلفية البيان الشهري الأخير الذي أصدروه. فهو قال: “أحدهم يقول أنّ هؤلاء فاتحين الجبهة وعاملين مفاوضات لأنّهم يريدون أن يذهبوا إلى ترسيم حدود مشبوه في غياب رئيس الجمهورية، يا عمي أنتم بكم شي، مع من تتحدثون”.
من تتبع مسار المواقف والعلاقات بين المرجعية الروحية المارونية وبين “حزب الله” يتبيّن أنّ بكركي وقفت منذ زمن طويل ضد خيار الحرب على الأرض اللبنانية، والذي تعاقبت على تبنّيه قوى وتنظيمات ودول خارج الشرعية اللبنانية منذ الاستقلال عام 1943 ولغاية الآن. هذا ما فعلته بكركي قبل أن يبصر “حزب الله” النور عام 1983 ثم بعد هذا التاريخ. وتكفي هنا العودة إلى أرشيف البطريرك الراحل الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير لنتبيّن أنّ ما يقوله اليوم الراعي قاله صفير سابقاً.
وفي هذا السياق، شاءت الصدف أن يطلّ الأمين العام لـ”حزب الله” والمبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين في وقت واحد يوم الجمعة الماضي.
من أبرز الاختلافات بين الرجلين، كان في موقف كلّ منهما من الجيش اللبناني. فما قاله الأمين العام لـ”الحزب” حول الجيش دلّ على أنّ “حزب الله” ليس في صدد التسليم بدور الجيش في جنوب لبنان ليتولى مع قوات “اليونيفيل” تطبيق القرار 1701. وفي المقابل، ركّز مبعوث الرئيس الأميركي جو بايدن على إعطاء الجيش كل الإمكانات كي يؤدي هذا الدور في الجنوب في مرحلة بالغة الخطورة.
يسلّم نصرالله من ناحية بحق الدولة في أن يكون لديها الجيش، لكنه يقول في الوقت نفسه أنّ أميركا هي تريد “جيشًا يبقى “هالقد”، بالتالي يعيش حالة الحاجة للأميركي، لا نريد أن نغمّق أكثر من ذلك، هذه مشكلة حقيقية”.
وفي المقابل، يقول المبعوث الرئاسي الأميركي: “سيتعين علينا القيام بالكثير من بناء الجيش اللبناني. علينا أن نبني الاقتصاد في جنوب لبنان. سيتطلب ذلك تحالفاً دولياً للدعم، وليس فقط الولايات المتحدة”.
لا مبالغة في القول إننا أمام “خطين متوازيين لا يلتقيان إطلاقاً”. فـ”حزب الله”، كما أعلن نصرالله قبل أيام متمسك ببقاء سلاح “الحزب” في الجنوب وسائر لبنان والمنطقة. أما مبعوث بايدن فينطلق مثل سائر الوسطاء الغربيين من مقولة أن عودة الهدوء إلى الحدود بين لبنان وإسرائيل يرتبط بتنفيذ القرار 1701 الذي لا يعترف بسلاح “الحزب” ووجوده على الإطلاق في المنطقة الواقعة في جنوب الليطاني، وهي منطقة عمليات هذا القرار.
هل لا يزال هناك من فسحة أمل في ردم هذه الهوة بين الفريق المسلح الذي يملك من النفوذ ما سمح له بفتح جبهة المواجهات في الجنوب منذ 8 تشرين الماضي ولا يزال، وبين المجتمع الدولي والعربي الذي ينظر إلى أنّ خلاص لبنان في هذه المرحلة بالتزام قرارات الشرعية الدولية؟
هناك في أوساط عدد من المراقبين جواب مضمر ينطوي على قلق كبير من أنّ لبنان في حاله الراهن يمضي إلى ملاقاة مصير الحرب المفتوحة التي كان آخر مثال لها عام 2006. وفي رأي هذه الأوساط إنّ هناك جداراً يفصل بين الحل الديبلوماسي وبين وقائع الميدان. فعلى جانبي الحدود الجنوبية تدور المواجهات بين إسرائيل التي تمضي إلى تحقيق هدف يتمثل بإنهاء وجود “الحزب” في منطقة الليطاني بالديبلوماسية وإلا فالحرب. وبين “حزب الله” الذي تعهد بالبقاء حيث هو الآن مهما حصل.
بعد كل هذه المعطيات، كيف يمكن التوفيق بين لغة البطريرك الراعي الإرشادية وهدوء هوكشتاين من جهة وبين غضب نصرالله من جهة أخرى؟
هناك إجماع داخلي تقريباً على أن هناك انقسام حاد بين دعاة تجنيب لبنان ويلات الحروب وعلى رأسهم البطريركية المارونية وبين “حزب الله” الذي يمضي بلا هوادة نحو زجّ لبنان في أتون المخطط الإيراني الذي يشعل المواجهات الإقليمية بالتنظيمات الموالية لطهران.
وفي موازاة ذلك، يقول أحد المتابعين عن كثب للوساطة الأميركية أن هناك خشية حقيقية من يكون هدوء مبعوث بايدن هو من ضرورات الموقف الديبلوماسي الذي “يغسل يديه” مسبقاً كي يقول لاحقاً “إني بريء من دم هذا البار”، كما فعل بيلاطس. فهل من معجزة تجنّب لبنان تجرّع كأس الصلب مجدداً في لعبة الأمم الجارية على ترابه؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
تفاؤل بري وابتسامة لاريجاني | “مرشد” لبنان و”بطريرك” إيران | تفليسة “تفاهم” مار مخايل في عملية البترون |