عون أو لا أحد
لا تسمح مراجعة مسيرة عون منذ “اتفاق الطائف” إلى اليوم، إلّا باستنتاج تمكّنه، بسهولة، من تبديل “جواربه” السياسية بجرأة واستخفاف تجعل من عبارة “اللعبة السياسية” حقيقة لا تُمارى
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
الذين تستدرجهم الذاكرة إلى الزمن الممتد من ولادة “اتفاق الطائف” إلى اليوم، لا بدّ أنهم لم يفاجأوا بالانقلاب الأخير للرئيس ميشال عون على نفسه، وكأنه يراهن، كما دائماً، على نعمة النسيان لدى جمهوره، وحتى لدى خصومه، بدءاً بمغادرته قصر بعبدا مطروداً، تحت ضغط اقتحام القوات السورية وحلفائها، ومجزرة 13 تشرين الأول 1990، خلال الفترة الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية، عندما أعدم مئات من جنود الجيش اللبناني بعد ذهاب قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون من قصر بعبدا إلى السفارة الفرنسية، بعدما زعم، في وجه مؤيديه، أنه لن يغادر المقر الرئاسي قبل مغادرة آخر جندي لبناني فيه.
بعد 32 سنة، ومع نهاية ولايته الرئاسية، في 22 تشرين الأول 2022، أيضاً، سرب محيطه ما مفاده أنه لن يترك رئاسة الجمهورية ما لم يتم انتخاب خلف له، وأنه لن يسلم الرئاسة إلى الفراغ، و”لا يعني ذلك، في رأيهم، أنه سيبقى في القصر، بل أنه سيبذل جهداً كي لا يكون هناك أي فراغ، وبالتالي العمل على إجراء الانتخابات الرئاسية”، والواقع أنه وحلفاؤه (حتى الأمس) لا يزالون يحولون دون انتخاب رئيس ولو اختلفوا تجاه ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية.
في 14 آذار 1989، أعلن عون “حرب التحرير” ضد الجيش السوري في لبنان أوصلت إلى إبعاده إلى فرنسا التي احتضنته بالتنسيق مع الولايات الأميركية، وسهّلت تواصله مع جمهوره، وفي 31 كانون الثاني 1990، بعد أشهر معدودة، شن هجومًا آخر على القوات اللبنانية في شرق بيروت، فقُتل أكثر من 1000 شخص، تحت عنوان “حرب الإلغاء”، برغم تحالفهما في البداية. فلا ربح الأولى، ولا نجح في الثانية. وفي 13 تشرين الأول 1990، شنّت القوات السورية عملية حاسمة اقتحمت فيها معاقل عون في بيروت الشرقية والقصر الجمهوري، وانتهت معها الحرب الأهلية.
لجأ عون إلى السفارة الفرنسية حيث أعلن استسلامه، ثم انتقل إلى فرنسا بعد منحه اللجوء السياسي. في المنفى، أسّس التيار الوطني الحر، ولعب دورًا أساسيًا في إقرار الكونغرس الأميركي قانون محاسبة سوريا. في 2005، عاد عون إلى لبنان بعد انسحاب الجيش السوري إثر ثورة الأرز، وترأس كتلة التغيير والإصلاح بعد انتخابه نائبًا عن دائرة كسروان، وما لبث أن ارتد عن مواقفه، ووقّع مذكرة تفاهم مع حزب الله وإنضم إلى تحالف 8 آذار، وشارك في اعتصام المعارضة ضد حكومة فؤاد السنيورة، وزار سوريا معلناً نهاية خصامه معها، على قاعدة أنّ “سوريا في سوريا” وأنها لم تعد تتدخل في شؤون لبنان، وفق زعمه.
بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان الرئاسية في 2014، عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس جديد. ففرض عون نفسه مرشحًا للمنصب، ونجح في الحصول على دعم جعجع وسعد الحريري، ما أدّى إلى انتخابه رئيسًا في الجلسة الانتخابية السادسة والأربعين.
كلّف عون الحريري بترؤس الحكومة، وأجريت الانتخابات النيابية في 2018 لأول مرة منذ 2009، وأنتجت كتلة نيابية كبرى لـ”التيار الوطني الحر” بفضل الحلف الرباعي في انتخابات الـ 2005، الذي بدا ككتلة إسلامية ضد المسيحيين فاستفاد منه الجنرال عون وحقق ما حقق من مقاعد نيابية مسيحية حملها مع جماهيره، التي شاركت في تظاهرة 14 آذار، إلى حضن عرّاب قوى الثامن من آذار الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله حليف سوريا الأسد والمتمسك بالسلاح، فلم ينجح مشروع بناء الدولة ولم تتحقق سيادة القانون.
لا تسمح مراجعة مسيرة عون منذ “اتفاق الطائف” إلى اليوم، إلّا باستنتاج تمكنه، بسهولة، من تبديل “جواربه” السياسية بجرأة واستخفاف تجعل من عبارة “اللعبة السياسية” حقيقة لا تمارى. فسجله السياسي ليس سوى سلسلة انقلابات على الذات، عنوانها الرئيس، كان نسب إليه سابقاً: أنا أو لا أحد.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |