إكرام العروبة دفنها
ستتوقف الحرب الراهنة في يوم ما، وستنجلي الصورة عن كيانات مصالحها مع غير العرب أعز مما يربطها بهؤلاء، وسينجز دفن العروبة بأقل ضجيج ممكن، ولن تجد الجنازة من يسير في ركبها
كتب راشد فايد لـ”هنا لبنان”:
تئد الحرب الإسرائيلية على غزة آخر أنفاس العروبة كرابطة قومية تحتضن المنطقة، وتفسح بذلك الدرب واسعة، وواضحة، لكيانات أرادتها القوى العالمية المهيمنة، كل في حينه، عُصبات محلية، هنا وهناك من أرض العرب، متضامنة شعاراً، ومتناحرة واقعاً، وذلك هدفها منذ ما قبل إسقاط السلطنة العثمانية، وما كانت ولادة جامعة الدول العربية سوى جائزة ترضية لإسكات المعترضين على دفن الدولة العربية الواحدة، التي أرادها الشريف حسين، في مرحلة ازدهار القوميات، من عربية وتركية وأرمنية وغيرها، وكادت تلحق بها ما اشتهر باسم “القومية اللبنانية”، التي رسمتها فرنسا.
كانت الهوية الدينية للسلطنة هي الرابط بين مناطقها الشاسعة الممتدة على 4 قارات، إلى أن تولت “جمعية الاتحاد والترقي” الحكم في الدولة العثمانية، وكانت نتيجة سياسة التتريك، التي انتهجتها ورفضها العرب، أنْ أعلن الشريف الحسين قيام الثورة العربية الكبرى، وأنهى الوجود العثماني في الحجاز والشام هادفاً إلى تأسيس الدولة العربية في سوريا أولًا ثم في العراق ثم في الأردن. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانتصار الحلفاء وانهيار الدولة العثمانية، مثَّل الشريف الحسين في مؤتمر فرساي للسلام ابنه الثالث فيصل الذي لم يقبل التصديق على معاهدة فرساي (1919) رافضًا، من دون جدوى، انتداب فرنسا وبريطانيا على سوريا وفلسطين والعراق.
ليس المقال لتقييم ما كان، ولا السؤال عمن كان على حق أم لا، بل للإضاءة على “إرادة” عليا سعت إلى تفكيك المنطقة منذ مطلع القرن الفائت، ولم يكن قيام إسرائيل إلّا أبرز تجلياتها، وحجر الزاوية في “إنجازاتها” التي أوصلت المنطقة إلى أن تصبح طوع بنانها، برضا واشنطن، ومن دونه.
ربما هي “الحكومة العالمية” التي يحكي عليها كثيرون، ويديرها أصحاب المال وماسكو ثروات العالم، والشركات القابضة، ومتعددة الجنسيات، وأجهزة المخابرات المعروفة والمجهولة.
يعتقد مروجو هذه الصورة أنّ الحكومة المذكورة تتولى رسم وجه العالم عند المفارق الحاسمة، فتستشيط غضباً للمجازر ضد غزة، والإعلام، والمنظمات الإنسانية، والفتك بالنساء والأطفال قصداً وعمداً، وتقدم، عبر الولايات المتحدة، وبرضاها، أحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً. وما حال تركيا غير ذلك: دولة إسلامية تزعم تأييد الفلسطينيين، وتصدر الصواريخ إلى تل أبيب، وفق ما تداولت وسائل الإعلان، والتواصل الإجتماعي.
قد يكون هذا الكلام صحيحاً، وقد يكون ساذجاً، لكن الواقع، بحكومة أو من دون هذا النوع من الحكومات، فإنّ من يدير العالم هو تناسق المصالح، وتنافرها، فتتقدم القيم الإنسانية على وقعها، أو تنكمش، وما يعيشه فلسطينيو غزة شهادة لا تحتاج فك طلاسم، وحتى الذين يدعون، ويدّعون نصرة الفلسطينيين، إنما يخدمون استراتيجية سياسية تحقق أهدافهم، وأوّلها دور وازن في “يالطا” إقليمية، على جثة العروبة.
يجب الإعتراف بأنّ أسلافنا كانوا مغرقين في الطيبة حتى السذاجة، ولا تنقص الباحث الإثباتات المتوافرة، على الأقل، منذ عشرينات القرن الفائت، وكانت العداوات بينهم أرضاً خصبة لتفتيت جمعهم، ولو كانوا إخوة وأشقاء، وكم ضحّوا بمصالح شعوبهم، لنكايات شخصية، وثارات بائدة.
كانت العروبة شعاراً يرفع في التظاهرات الشبابية، والخطب السياسية، خصوصاً زمن البعث، بكل انشقاقاته، لمنافسة الناصرية، لكنها لم تُنتج أي ترجمة عملانية للدعوات الملحة إلى وحدة عربية: فالحدود التي رسمها الانتداب البريطاني والفرنسي ومصالح الخارج بقيت محل “احترام” الكيانات الوليدة، بل هي عمقت وجودها، وبينما كانت الناس تتذكر خط السكة الحديد الذي أراده السلطان عبد الحميد رابطاً بين دول المنطقة، كان العربي يخضع لتحقيق أمني عند زيارته بلداً عربياً غير بلده، إلى أن سقطت “بلاد العرب أوطاني” في غيهب النسيان، وصار كل كيان يصرخ نفسيَ نفسي، حتى يمكن القول اليوم، إنّ “هبّة” العرب لدعم غزة والضفة، ليس منبتها رابطة الدم، ووحدة المصير، بل الشعور الإنساني الذي تبديه الشعوب الأخرى تعبيراً عن انسانيتها. وإلّا ما الذي قدمه العرب لفلسطين، أكثر مما قدمته دول العالم، وعلى رأسها جنوب إفريقيا؟
ستتوقف الحرب الراهنة في يوم ما، وستنجلي الصورة عن كيانات مصالحها مع غير العرب أعز مما يربطها بهؤلاء، وسينجز دفن العروبة بأقل ضجيج ممكن، ولن تجد الجنازة من يسير في ركبها، إلّا إذا انتقلت الدعوة إليها من الحناجر إلى الوقائع التنفيذية، بعد عقود من “بالروح بالدم نفديك يا…” و”في البحر ح ندفنهم”.
في مطلع التسعينات الماضية، وفي حوار صحافي مع كلود شيسون، وزير خارجية فرنسا، زمن الرئيس فرنسوا ميتيران، سألني: هل تعرف أنّ الاتحاد الأوروبي وُلد من مشروع “السوق العربية المشتركة” الذي وضع في القمة العربية الأولى في إنشاص المصرية، (1946) بعد سنة من ولادة جامعة الدول العربية؟ أنظر اليوم، أين أوروبا، وأين العرب؟
ليس في كل ما تقدم إساءة الى العروبة، بل دعوة إلى مغزى جديد لدورها في التقدم المجتمعي، والتطور العلمي، وعدم السقوط في الجدالات البيزنطية غير المجدية.
على فكرة. متى عيد الفطر؟ الثلاثاء أم الأربعاء، أم اليومين بالتتالي؟
عقم الأفكار مرتعه وخيم، لا سيما لدى الشعوب التي أدمنت النظر وراءها، لا قدّامها.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |