المقوّمات موجودة لاستمرارية القطاع المصرفي والثقة تعود تدريجياً… فما أبرز المؤشرات؟
على رغم المتاجرة بحقوق المودعين والجمود بالإصلاحات والشغور الرئاسي وشلل المؤسسات الدستورية وتهميش لبنان على النظام المالي والتجاري والمصرفي العالمي منذ آذار 2021، عندما قررت الحكومة السابقة التعثر في تسديد سندات اليوروبوند، لا يزال القطاع المصرفي صامداً
كتبت باولا عطية لـ “هنا لبنان”:
“قد يكون من المبكر الحديث عن بدء تعافي القطاع المصرفي، حيث هناك إصلاحات مصرفية لا تزال مطلوبة من لبنان”، بحسب ما يؤكّد الخبير الاقتصادي، باتريك مارديني، في حديثه لموقع “هنا لبنان”، مضيفاً “إلاّ أنّ حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، كان قد حاول مساعدة المصارف للفصل بين الدولار القديم والجديد “الفريش”، حيث أنّ الدولار القديم عالق ويجب معالجة وضعه، وبذلك شرّع الباب أمام المودعين لفتح حسابات فريش دولار. وتعتبر هذه الخطوة إيجابية، لأنها سمحت للمغتربين بإدخال أموال إلى لبنان عبر هذه الحسابات كما سمحت للبنانيين بإرسال الأموال إلى الخارج لضرورات الاستيراد والتصدير، وبالتالي ساهمت في تنشيط التجارة الداخلية والخارجية. كما أنّ السماح بفتح حسابات فريش وفصلها عن الدولار القديم، سمح بتنشيط الحركة الاقتصادية نسبياً”.
“أما استقرار سعر صرف الليرة، منذ تسلّم وسيم منصوري حاكمية مصرف لبنان بالإنابة، والذي تزامن مع انتهاج المصرف المركزي سياسة عدم تمويل الحكومة اللبنانية لا بالليرة ولا بالدولار، كان خطوة إيجابية شجعت البعض على فتح حسابات في المصارف بالليرة اللبنانية دون الخوف من انهيار جديد لسعر الصرف. فيما الهدف الرئيسي من استقرار سعر الصرف هو إعادة ثقة المواطنين بعملتهم المحلية، وتخفيض الطلب على الدولار”، بحسب مارديني.
فشل مشروع استبدال المصارف اللبنانية بـ5 مصارف جديدة
لا شكّ بأنّ القطاع المصرفي تأثر بالأزمة المالية كباقي القطاعات الاقتصادية في لبنان، من ناحية تقليص الميزانيّة المجمعة للقطاع، تراجع عدد الفروع، وعدد العمّال والموظفين في القطاع، وبيع بعض الأصول في الخارج. والأزمة الماليّة هي في الحقيقة أزمة ثقة تحوّلت إلى أزمة شحّ بالسيولة لتصبح أزمة نقدية واقتصادية، ولكن القطاع المصرفي لا يزال موجوداً على الأرض، ولا يزال له دور في الاقتصاد، واليوم أصبح هناك وعي أكبر بأنّ نهوض الاقتصاد اللبناني لا يمكن أن يحصل دون المصارف، واستمرارية القطاع المصرفي. وهو ما شدّد عليه الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور نسيب غبريل، في حديثه لـ”هنا لبنان”، مذكّراً بأنّ “مشروع الحكومة السابقة كان هدفه الإطاحة بالقطاع المصرفي واستبداله بـ5 مصارف جديدة عبر إصدار 5 رخص مصرفية، ولم تنجح الخطة لفقدانها المصداقية، ولكون مبدأ استبدال القطاع المصرفي بمصارف جديدة هو فكرة سيئة جداً”.
واستشهد غبريل “بالباحثين الثلاثة الذين فازوا بجائرة نوبل للاقتصاد في تشرين الأول 2022، بناء على بحث أجروه حول الأزمات المصرفية حول العالم، واكتشفوا أنّ مسؤولية الدولة الحفاظ على الاستقرار والثقة، لكون ثقة المودع لن تدفعه إلى الإقبال على سحب ودائعه. وهنا تأتي مسؤولية السلطة في جميع دول العالم على المحافظة على ثقة المودع من خلال إجراءات تعزز الثقة بالاقتصاد ككل، ومن خلال الشفافية وحسن إدارة القطاع العام، وحسن إدارة المالية العامة. أمّا السبب الثاني الذي أربحهم الجائزة فهو قولهم بأنّ المصارف وعلى عكس قطاعات ومؤسسات اقتصادية أخرى لديها ذاكرة وداتا معلومات، وخبرة بعشرات السنوات بكيفية التسليف وكيفية إدارة المخاطر، ودراسة الملفات وإدارة المحافظ، وبالتالي لا يمكن بهذه البساطة الإطاحة بالمصارف واستبدالها بأخرى جديدة. فهذه الجديدة لن يكون لديها نفس الذاكرة والخبرة في السوق”.
أما عن الحملات على القطاع المصرفي والمحاولات لتحميله وحده مسؤولية الأزمة يقول غبريل “واجهها وعي من قبل عدد كبير من المواطنين والمودعين والمقترضين والمساهمين، الذين رأوا باستراتيجية تحميل القطاع المصرفي المسؤولية الوحيدة للأزمة، تهرّباً للسلطة من مسؤولياتها بالمشاركة بالأزمة، وذلك يترجم بشكل مباشر بمشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها الصادر بتاريخ 8 شباط 2024، الذي يضع عبء تسديد ودائع المودعين على عاتق المصارف، وكأنّ السلطة لم تكن سوى مراقب عن بعد وفجأة استفاقت في 17 تشرين الأول 2019 واكتشفت أنّ هناك أزمة اقتصادية في لبنان”.
مؤشرات صمود القطاع المصرفي
وعلى رغم المتاجرة بحقوق المودعين والجمود بالإصلاحات والشغور الرئاسي وشلل المؤسسات الدستورية وتراجع نوعية الخدمات العامة والبنى التحتية، وتهميش لبنان على النظام المالي والتجاري والمصرفي العالمي منذ آذار 2021، عندما قررت الحكومة السابقة التعثر في تسديد سندات اليوروبوند لا يزال القطاع المصرفي صامداً وفيما يلي أبرز المؤشرات على ذلك، والتي عددها غبريل:
– يضمّ القطاع المصرفي حتى اليوم نفس عدد المصارف التجارية قبل أزمة 2019: 46 مصرفاً (كان العدد 47 مصرفاً)
– هذه المصارف لا يزال لديها 778 فرع في لبنان وفي الخارج، بالرغم من إغلاق نحو 34% من فروعها، منها 710 فروع للمصارف التجارية في لبنان و48 فرع للمصارف اللبنانية في الخارج، و20 فرع لمصارف التسليف المتوسط وطويل الأجل
– وإن خسر القطاع المصرفي رأسماله البشري، حيث كان يمتلك 26 ألف موظف قبل الأزمة، إلا أنه لا يزال يضم 14 ألف و600 موظف تقريباً
– لا يزال القطاع المصرفي يضمّ 3 مليارات دولار ودائع فريش (أرقام ليست رسمية) موزعة على 225 ألف حساب وهذه الحسابات تتزايد يوماً بعد يوم بعد أن عادت الشركات لتوطين رواتب موظفيها، لتأكدها من أنّ التعامل مع المصارف هو أكثر أماناً من التعامل بالكاش ووضع الأموال النقدية إن كان بالليرة أو بالدولار بالخزنات أو في المنازل.
– الشركات التي تريد أن تكون جاهزة عندما يبدأ القطاع المصرفي بالتسليف، بدأت بفتح حسابات لها، كشركات أولاً، وحسابات لتوطين رواتب موظفيها.
– لا تزال الشركات تستخدم القطاع المصرفي لتغطية كلفة الاستيراد وحاجات التصدير.
وحذّر غبريل من “الجهات التي تدعي الإصلاح السياسي فيما غايتها الإطاحة بالقطاع المصرفي لشراء أصوله بأثمان زهيدة”، مشيداً “بالوعي المتزايد حول أهمية استمرار القطاع المصرفي وليس استبداله بمصارف ورخص مجهولة الهوية، ومجهولة الجهة التمويلية”، ومستشهداً بتصريح إعلامي لحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري قال فيه أنه يجب الحفاظ على استمرارية القطاع واستقلاليته لأنّ استبداله بمصارف جديدة، ورخص جديدة لا يضمن تدفق الاستثمارات إلى المصارف الجديدة. وذكّر منصوري أنّ المصارف الحالية تمكنت من استقطاب 200 مليار دولار منذ نهاية الحرب لغاية بداية الأزمة، فهل بإمكان المصارف الجديدة أن تستقطب جزءاً ولو بسيط من هذه الاستثمارات؟ نشك في ذلك.
المشكلة بمؤسسات الصيرفة ومؤسسات تحويل الأموال غير المرخصة
أما التهويل الدائم بإمكان إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، “فقابله تقرير صدر في كانون الأول الماضي في 2023، عن المجموعة”، بحسب غبريل، “جاء فيه أنّ لبنان ملتزم كلياً أو جزئياً بـ34 توصية من أصل 40 ويجب العمل على التوصيات الستّ المتبقية والمشكلة ليست لدى لمصارف التي تملك دوائر لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ودوائر الامتثال، بل بمؤسسات الصيرفة ومؤسسات تحويل الأموال غير المرخصة ولمعالجة هذا الأمر أصدر مصرف لبنان تعميماً طلب فيه من مؤسسات الصيرفة والمؤسسات المالية تأسيس دوائر لمكافحة الفساد والامتثال، ومصرف لبنان والمصارف تقوم بدورها في هذا الإطار، وأثبت التقرير أنّ المشكلة ليست لدى المصارف بقدر ما هي في الاقتصاد الكاش والموازي والخارج عن القطاع المصرفي. حيث أنّ القطاع المصرفي مستمر بالالتزام بالمعايير الدولية، وبمبدأ الامتثال وهو ما يجعله يستمر بالتواصل وتكوين علاقات مع المصارف المراسلة حيث أنّ الأخيرة لم تقطع علاقتها مع المصارف اللبنانية ولا تزال المصارف اللبنانية تملك حساباً بمصارف في الخارج على عكس ما يشاع. فما حصل في بداية الأزمة كان نتيجة امتلاك المصارف اللبنانية عدداً كبيراً من الحسابات في المصارف المراسلة بعملات مختلفة وببلدان مختلفة، وأقدمت بعض المصارف على إقفال عدد كبير من هذه الحسابات، خاصة تلك التي كانت بعملات لا تدخل بالتبادل التجاري، من باب التوفير، نتيجة الرسوم المرتفعة”.
من يقول إنّ أزمة الثقة محصورة بالمصارف هو يضلل الرأي العام
ورأى غبريل أنه “على المصارف التواصل أكثر مع زبائنها وشرح أسباب الأزمة، وهي ليست هاربة من مسؤولياتها، بل مستعدة لتحمل جزء من مسؤولية الخروج من الأزمة وتسديد الودائع، ولكنها لا تستطيع القيام بهذه الخطوة بمفردها، فكما مصرف لبنان استقطب الودائع المصرفية التي بلغت 80 مليار دولار، وكما الحكومات المتعاقبة أنفقت وأهدرت هذه الأموال، على كليهما المساهمة في الخروج من الأزمة وليس التصرف كمراقب عن بعد. كما على المصارف حث السلطات للبدء بالإصلاحات واستعادة الثقة، فالأخيرة لا تتم بإعادة هيكلة القطاع المصرفي بل عبر الالتزام بالمهمل الدستورية وتطبيق الدستور، واحترام مبدأ فصل السلطات وتحقيق استقلالية القضاء ومكافحة التهرب الضريبي والجمركي، وتفعيل الجباية، ومكافحة التهريب عبر الحدود بالاتجاهين، وإعادة هيكلة القطاع العام، وتفعيل مشاركته والقطاع الخاص في استثمار وإدارة القطاعات العامة الحيوية. فمن يقول إن أزمة الثقة محصورة بالمصارف هو يضلل الرأي العام”.
مذكرة ربط نزاع
ولفت غبريل إلى أنّ “أحزاب السلطة أدخلت 32 ألف شخص إلى القطاع العام بين عامي 2014 و2018، وزادت النفقات بـ160% بين عامي 2006 و2018، من دون أن يصوّت المجلس النيابي على موازنات. ولإيضاح موقفها، تقدم 11 مصرفاً بمذكرة ربط نزاع إلى وزارة المالية قالت فيها أنه على مصرف لبنان الطلب من الدولة تسديد ديونها له والتي تبلغ 16 مليار و500 مليون دولار وعلى مصرف لبنان مطالبة وزارة المال بالالتزام بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف الذي يقول بشكل واضح لا يقبل الجدل، أنه إذا تكبّد مصرف لبنان خسائر ولم يتمكن من تغطيتها، على وزارة المالية تغطيتها، وهي أول خطوة عملية ومبنية على الأرقام الموجودة في تقرير التدقيق الجنائي لمصرف لبنان الذي أصدرته شركة ألفاريز أند مارسيل، وتقرير التدقيق بأرقام وضع المالية العامة لدى مصرف لبنان، الذي أصدره أوليفر وايمان”.
وأكّد أنّ “استمرارية القطاع المصرفي لا تزال قائمة على الرغم من انعدام مصادر تمويل القطاع”، منتقداً “الحديث القائل بأنّ على المصارف أن يكون لديها 80% من ودائعها، فصاحب هذا القول يجهل كيفية عمل المصارف حيث أنّ الأخيرة يجب أن تبقي لديها بين 10 و12% من السيولة الجاهزة من مجموع الودائع وليس 80 أو 90%. فالمصرف الذي يملك هذا الكم من السيولة الجاهزة هو لا يقوم بعمله كوسيط مالي”.
وشرح غبريل أنّ “المصارف سلّفت القطاع الخاص 59 مليار دولار، ليتراجع حجم التسليفات بالعملات الأجنبية إلى 34 مليار دولار منذ بدايات الـ 2019، بنسبة 83%، أمّا التسليفات بالليرة اللبنانية فتراجعت 17 تريليون ليرة أي 68%. وفيما الفوائد على القروض هي إيرادات أساسية للمصارف، تمّ تسديدها قروض الدولار بالليرة اللبنانية أو بالشيكات دولار، بأقلّ بكثير من قيمتها الفعلية ما ضرّ بأموال المصارف والمودعين، حيث أنّ الأخيرة هي التي سلّفت إلى القطاع الخاص. أمّا المصدر الثاني لدخل المصارف فهو الفوائد على سندات اليوروبوند، وكانت المصارف تحمل 14 مليار دولار سندات يوروبوند وعند قرار الحكومات السابقة التخلّف عن تسديد هذه السندات، توقفت الفوائد، وهي خسائر أيضاً تكبّدتها المصارف. وكذلك أصدر مصرف لبنان تعميماً في بداية الأزمة يقضي بتخفيض الفائدة على الودائع المصرفية المجمّدة لديه، بنسبة 50%، ليعود ويرفعها إلى الـ75% لتبقى الفائدة على سندات الخزينة بالليرة وهي لا تدفع بالكاش، ما يعني أنّ إيرادات المصارف تراجعت كثيراً وعلى الرغم من ذلك هي مستمرة، فكيف سيكون الحال، مع عودة الثقة تدريجياً ومعها محركات الاقتصاد إلى العمل، ومع رجوع التسليف بشرط تسديد التسليفات بالفريش دولار؟”.
لم يعلن أيّ مصرف الإفلاس
وشدد على أنّ “كلّ ما سبق، يؤكّد أنّ المقوّمات موجودة لاستمرارية القطاع المصرفي، فعلى الرغم من كل العراقيل التي أجهدت هذا القطاع، لم يعلن مجلس إدارة أي مصرف إفلاس مصرفه، فيما كانت هذه الطريقة الأسهل للخروج من السوق اللبناني، والتخلّص من المشكلة، حيث في حالة إعلان الإفلاس تصفى أصول هذا المصرف ويعود الفتات إلى المودعين بعد سنوات عديدة وأكبر دليل على ذلك تجربة بنك إلترا الذي لم تنتهِ إجراءات إفلاسه حتى اليوم. فمجالس الإدارة رفضت الخروج من السوق وإعلان افلاسها وهي واعية على واجبها اتجاه المودعين وتعمل على انصاف حقوقهم وذلك لا يتم عبر الإطاحة بالقطاع المصرفي وشرائه بأسعار زهيدة، بل بالطلب بتكوين سيولة كافية ليتمكّن القطاع المصرفي من تسديد الودائع تدريجياً، بحسب ما يحتاجه المودع وليس كل الودائع، ومن ثمّ عودة التسليفات إلى القطاع الخاص. فاليوم هناك 90 مليار دولار ودائع بالعملات الأجنبية توازي 15% من حجم الودائع وهي كافية للسماح للمودع بالتصرف بجزء من ودائعه بالمبلغ الذي يحتاجه. فالمودع قبل الأزمة، كان يستخدم حاجته من وديعته ولم يكن يسحب وديعته كاملة”.
وختم غبريل بأنّ “البنية التحتية للقطاع المصرفي لا تزال صامدة، وتملك أشخاصاً كفوئين في القطاع لإدارة البنية التحتية والحفاظ عليها، للسماح للقطاع بالعودة فور توفّر السيولة وتحسين بيئة الاستثمار والأعمال”، مشيراً إلى أنّ “هناك مليوني بطاقة دفع مع المواطنين يقومون باستخدامها حيث لا يزال هذا الشق من العمل المصرفي أيضاً مستمراً على الرغم من كل شيء”.