لبنان في المراكز الأخيرة ضمن مؤشر الحوكمة لعام 2024.. فما تأثير هذا التصنيف؟
الحوكمة هي إدارة المرافق العامة والموارد الطبيعية استنادًا لأحكام القانون بما يضمن نموها المستدام ويراعي المصلحة العامة وحقوق المواطنين، فكيف يؤثر تصنيف لبنان المنخفض في مؤشر الحوكمة العالمي على صورة لبنان وقطاعه الاقتصادي والاستثماري؟
كتبت باولا عطية لـ”هنا لبنان”:
صنّف بنك الاستثمار العالمي، غولدمان ساكس، لبنان في المركز 66 بين 74 سوقاً ناشئة، وفي المركز 11 بين 12 دولة عربية على مؤشره السيادي البيئي والاجتماعي والحوكمة للأسواق الناشئة لعام 2024.
وجاء لبنان في المركز 66 بين الأسواق الناشئة وفي المركز 11 عربياً على مؤشر 2023. واستناداً إلى مجموعة البلدان ذاتها في استطلاع عامي 2023 و2024، انخفض ترتيب لبنان بين الأسواق الناشئة بمقدار ثلاث درجات، في حين بقي ترتيبه الإقليمي من دون تغيير على أساس سنوي.
فما هي الحوكمة وكيف يؤثر تصنيف لبنان المنخفض في مؤشر الحوكمة العالمي على صورة لبنان وقطاعه الاقتصادي والاستثماري؟
تعريف الحوكمة
بجوابها على هذه الأسئلة تعرّف خبيرة الحوكمة، د. جوزفين زغيب، في حديث خاص لموقع “هنا لبنان”، الحوكمة بأنّها “إدارة المرافق العامة والموارد الطبيعية استنادًا لأحكام القانون بما يضمن نموها المستدام ويراعي المصلحة العامة وحقوق المواطنين. أمّا ركائز الحوكمة فهي أولاً، النزاهة، حيث تفرض الحوكمة على القادة والموظفين أن يلتزموا بمعايير السلوك الأخلاقي والقانوني والشفافية وتوفير المعلومات والبيانات بشكل متاح وفعال للجمهور. ثانياً، العدالة، التي تعني المساواة وعدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر. ثالثاً، الاستدامة، وتشير إلى الجهود المستدامة للحفاظ على التوازن بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للعمل على التنمية المستدامة. رابعاً، إدارة المخاطر، حيث يتعين تحديد وتقييم وإدارة المخاطر المحتملة التي قد تؤثر على أدائها وسمعتها من خلال تطوير إطار عمل لإدارة المخاطر واتخاذ إجراءات للتعامل معها. خامساً، المشاركة، وتعني تعزيز وتمكين المواطن في إيصال توصياته لصناع القرار. وسادساً، المساءلة، أي إمكان تقييم وتقدير أعمال مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية وتجنب الاستغلال للمصالح الشخصية”.
وأوضحت زغيب أنّ “مفهوم الحوكمة قديم جداً، يعود إلى الثمانينات من القرن الماضي، وتبلور هذا المفهوم في التسعينات، وأدخلت عليه مبادئ الشراكة والتشاركية والإدارة الحسنة للاستفادة من الموارد والعمل على التنمية المستدامة. وتصنيف لبنان في أدنى المراتب العالمية، ضمن مؤشر الحوكمة، يعني أنّ ركائز الحوكمة غائبة، خصوصاً بعد انعدام الثقة بحسن إدارة الدولة لمرافقها العامة في السنوات الثلاث الأخيرة، نتيجة تفشي الفساد، وانهيار الدولة، وعدم محاسبة أي مسؤول، وسط غياب تام لدور الأجهزة الرقابية، وخرق مستمر للقوانين والمهمل الدستورية”.
أين لبنان من معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية والمؤسسية؟
وكان أداء لبنان أفضل على مؤشر ESG (معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية والمؤسسية) من ساحل العاج، الكاميرون وباكستان، في حين كان أداؤه أضعف من أداء الغابون وإثيوبيا وزامبيا بين الأسواق الناشئة. وحصل لبنان على درجة 5.09 نقاط على المؤشر لعام 2024 مقارنة بدرجة 5.3 على مؤشر 2023، ومقارنة بمتوسط درجة الأسواق الناشئة 6.22 نقاط ومتوسط درجة العرب 5.9 نقاط. كما جاءت نتيجة لبنان أقل من متوسط درجات دول مجلس التعاون الخليجي البالغ 6.37 نقطة ومتوسط درجات الدول العربية غير الخليجية البالغ 5.42 نقطة.
أمّا بالنسبة إلى الفئة الاجتماعية، التي تدرس عدم المساواة في بلد ما، من حيث التوظيف والوصول إلى الموارد الأساسية مثل الحصول على خدمات نظيفة ووقود الطهي والكهرباء، فضلاً عن مستويات الصحة والتغذية للسكان، فقد سَبقَ لبنان الأردن والعراق فقط عن هذه الفئة.
علاوة على ذلك، تقدم لبنان على باكستان والعراق وطاجيكستان، وجاء خلف مصر والكاميرون ونيجيريا بين الأسواق الناشئة في مؤشر 2018.
لبنان منذ الأزمة في أدنى مراتب التصنيفات العالمية
وفي هذا الإطار، شرح الخبير الاقتصادي، أنطوان فرح، في حديثه لموقع “هنا لبنان”، أنّ “لبنان أصبح يحتلّ منذ اندلاع الأزمة المراتب الأدنى، في جميع التصنيفات التي تتم من قبل مؤسسات ومصارف دوليّة للوضع اللبناني المتعلّق بالشق الاقتصادي والمالي والقطاعات المتصلة بهما، ومن ضمنها شق الحوكمة والمحاسبة. والتصنيف الأخطر والأساسي المتعلّق بلبنان هو التصنيف السيادي، والذي تصدره وكالات التصنيف العالمية كموديز وغيرها، والتي وضعت لبنان بمراتب دونيّة تحت الـC، خصوصاً بعد توقفه عن الدفع واتجاهه نحو الإفلاس، وهو التصنيف الأخطر، والذي يؤثر بشكل مباشر على وضعه المالي والاقتصادي، فهو يمنع اقتراض أي استثمار أجنبي في البلد، ويعرقل الاستثمارات الداخلية، حيث أنّه عندما يكون البلد في مرتبة الفشل والتوقف عن الدفع، من الصعب إيجاد مستثمرين لديهم الثقة بوضع أموال في لبنان”.
وبالعودة إلى تصنيف غولدمان ساكس، رأى فرح أنّ “غياب الشفافية والحوكمة، كانا السببين الرئيسيين وراء انهيار الاقتصاد، وهو ما شهدناه في جميع القطاعات بدءاً من القطاع العام، ووصولاً أحيانً إلى القطاع الخاص الذي يتأثر دائماً بمناخ القطاع العام السائد. فعندما يصبح الفساد مناخاً عاماً سائداً في البلد تصعب المحاسبة والمكافحة”.
وعن الحلول أجاب فرح “إذا أراد لبنان الخروج من قعر السلّم في مراتب التصنيفات العالمية، عليه البدء بالعمل أوّلا على تحسين مؤشر السيادة، وبالتالي تنفيذ الخطّة المطلوبة للخروج من الأزمة الاقتصادية، وتصحيح وضعه مع حاملي سندات اليوروبوند في الخارج، وتصحيح وضعه في الداخل عبر إعادة احياء القطاع المصرفي وضمان حقوق المودعين وإعادة عجلة الاقتصاد إلى طبيعتها، وهكذا تبدأ عملية الإصلاحات المطلوبة في القطاع العام عبر تفعيل الشفافية والحوكمة وهو ما سينعكس بدوره على جميع القطعات الأخرى”.
26 متغير
وإلى ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ بنك الاستثمار العالمي، غولدمان ساك، يستخدم قاعدة بيانات البنك الدولي للمؤشرات البيئية والاجتماعية والحوكمة، ويكمل الأخيرة بمتغيرات من مصادر أخرى لإنتاج المؤشر. ويتكون المؤشر من 26 متغيراً مقسّمة إلى فئات البيئة والأوضاع الاجتماعية والحوكمة. علاوة على ذلك، يقوم البنك بحساب درجات المؤشر من خلال تصنيف فئات الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة لكل دولة على مقياس من صفر إلى 10، حيث تعكس الدرجة 10 أفضل أداء. والنتيجة الإجمالية لبلد ما، هي متوسّط مرجّح بالتساوي للدرجات في الفئات الثلاث.
وكان قد لفت البنك إلى أن وكالات التصنيف أخذت في الاعتبار بشكل متزايد فئات الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة عند إجراء مراجعات التصنيف، وعند اتخاذ إجراءات في شأن الصناديق السيادية. واعتبر أنّ درجات الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة الأعلى تميل إلى أن تكون مؤاتية للتصنيفات السيادية.
آثار بعيدة المدى
في الإطار نفسه، اعتبر الخبير الاقتصادي د. خلدون عبد الصمد في حديثه لموقع “هنا لبنان” أنّ “الحوكمة لها تأثير أساسي في اقتصاد وسياسة البلد، وعادة تدرس مؤشرات الحوكمة، أداء الدول الناشئة، أو الدول الخارجة من أزمة، ليتمكن المجتمع الدولي من تحليل عمليّة تسيير الأمور في بلد ما. وكنّا نتوقّع أن تأتي نتائج تصنيفات لبنان ما دون المعدل العام، وهو 6 نقاط. وهذا التصنيف لن يؤثر علينا اليوم بشكل مباشر، بل سيظهر تأثيره على المدى الطويل، حيث ستضعف نظرة الدول المانحة تجاه لبنان، وستتأثر المساعدات، والتقديمات، والمنح والقروض، وسيبطئ عمليّة النهوض الاقتصادي. وبالتالي فشل لبنان في الاختبار الأول، حيث سبقت لبنان عدد من الدول التي لم تكن في الحسبان، وباتت اليوم تنافسه بعدما كانت خارج المنافسة سابقا”.
وفي موازاة ذلك، سبق لبنان بوليفيا وأذربيجان والبحرين، في حين تأخّر عن ترينيداد وتوباغو والكويت وإندونيسيا بين الأسواق الناشئة في فئة البيئة. يغطي هذا المكون الاستخدام الحالي للدولة للموارد الطبيعية، ومستوى التلوث واستهلاك الطاقة، بالإضافة إلى المخاطر البيئية المرتبطة بشكل أساسي بتغيّر المناخ. وجاء لبنان في المركز الثاني بعد البحرين وعمان والعراق.
كما تقدم لبنان على طاجيكستان والهند والأردن، في حين جاء في مرتبة متأخرة عن مصر وفنزويلا والمغرب بين الأسواق الناشئة.
الوضع البيئي في لبنان سيئ ومحاولات إنقاذه متواضعة
بدوره، لفت الصحافي المتخصص في القضايا البيئية مصطفى رعد، في حديثه لموقع “هنا لبنان”، إلى أنّ “لبنان يعاني من الكثير من المشاكل البيئية التي تؤثّر على تصنيفه البيئي العالمي، وأوّلها، أزمة مياه الصرف الصحي، فيما هناك مشروع لحلحلة هذه الأزمة، من قبل الاتحاد الأوروبي واليونيسيف بالشراكة مع وزارة البيئة،لدعم مؤسسة المياه لإعادة تأهيل وتشغل 12 محطة صرف صحي رئيسية على كامل الأراضي اللبنانية، ويمتدّ هذا المشروع على فترة عامين، لتحسين وضع المعامل المتخصصة في تكرير مياه الصرف الصحي، لتتمكن من تلبية عدد أكبر من المناطق، وهو ما سيخفف من نسبة التلوّث في المياه، ومن الفاتورة الصحية حين تكون المياه ملوّثة”.
كما يعاني لبنان من أزمة النفايات الصلبة، يتابع رعد، “وكان لوزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال، ناصر ياسين، خطوة في هذا الإطار، حيث افتتح رسمياً مشروع إعادة تأهيل معمل فرز الكرنتينا، وتحدّث عن كيفية استرداد الكلفة للنفايات، وكيفية احتساب التعرفة، حيث قد نبدأ بتطبيق مبدأ “الملوّث يدفع”، كما هناك عمل يتمّ في المؤسسات والمنازل الكبيرة والشركات”.
وأضاف رعد “يعاني لبنان أيضاً، من نسب عالية من تلوّث الهواء، سببت نسب سرطان مرتفعة، نتيجة المعامل والمولّدات غير الصديقة للبيئة، في ظلّ غياب خطّة حقيقية للحدّ من الانبعاثات الناتجة عن هذه المعامل والمولدات، وغياب خطّة جدية للحكومة لمعالجة أزمة الكهرباء، المستفحلة منذ العام 2012. وبحسب آخر دراسة أعدتها جامعة الـ AUB في العام 2017، أشارت إلى أنّ بيروت الإدارية وحدها، تضمّ 9 آلاف مولّد، من أصل 30 ألف مولّد في لبنان كلّه. وإلى ذلك، آلات قياس التلوث التابعة لوزارة البيئة بمعظمها متوقّفة عن العمل، لكون الوزارة لا تملك القدرة المالية على صيانتها، منذ العام “2019.
“كما يعاني لبنان من تلوث بحري ونهري، وهو ما يعيدنا إلى مشكلة إدارة قطاع المياه في لبنان، حيث أنّ وزارة الطاقة كانت قد أعدت في العام 2010 خطّة لإدارة هذا القطاع، إلاّ أنّه لم يعرف ما كان مصير هذه الخطّة. فضلاً عن غياب الثقافة البيئية في الكثير من المناطق، لكون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، أزاحت المواضيع البيئية من لائحة اهتمامات وأوليات المواطنين”، بحسب رعد.
“أمّا أزمة التجديد للبلديات، فهي لوحدها كافية لتخفيض تصنيف لبنان في مؤشر الحوكمة”، يقول رعد، “حيث أنّ في لبنان 162 بلدية من أصل 1064 محلول عملها، أي أكثر من 15% من مجمل بلديات لبنان متوقفة بشكل كامل عن العمل، وأهمها بلدية بيروت! ما سيخلق مشاكل متراكمة مرتبطة بالحوكمة والإدارة، ستؤثّر بطبيعة الحال على مدى إمكانية المواطنين الحصول على خدمات عامة. وكنا قد تقدّمنا في جمعية DRI بعدد كبير من مشاريع القوانين، لتحسين جباية البلديات، ولضرائب التي يستوفونها من المواطنين، ما يضمن حصول المواطنين على خدمات كاملة”.