الحقائق التي لا تقال… من غزة إلى الجنوب
الخسائر المحققة من الحرب حتى الآن أكبر من الأرباح بأضعاف مضاعفة، والهدف الذي تتحدث عنه “حماس” عن دفع القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمامات الدولية يبدو غير مضمون إذا نجح الإسرائيليون في سحق غزة، وليس في الأفق مكسب فلسطيني آخر إلا إذا كانت “حماس” وحلفاؤها يخبئون مفاجأة معينة ستقود إلى انتصار في لحظة معينة، ولا شيء يوحي بذلك..
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
حتى اليوم، لم تجرؤ أي جهة عربية مسؤولة على إجراء تقويم موضوعي لحرب غزة، وتالياً للعملية التي أشعلت الحرب في 7 تشرين الأول من العام الفائت. فالذين يؤيدون “حماس” لا يهمهم إلا الإعلان عن خسائر الإسرائيليين، وتخبط بنيامين نتنياهو في الداخل والخارج. لكن هؤلاء يتجنبون إجراء قراءة موضوعية لنتائج الحرب المحققة حتى اليوم، وما ستقود إليه عسكرياً وسياسياً، لأنّ ذلك يحرجهم.
في المقابل، خصوم “حماس” يتهيبون إبداء رأيهم في هذه الحرب، لسببين:
1- هم أيضاً يعتبرون إسرائيل دولة احتلال معتدية أساساً، أي أنها مسؤولة عن مبررات الحرب. لذلك، هم أيضاً يؤمنون بحق الفلسطينيين في مقاومتها بكل الوسائل التي تكفلها الشرائع الدولية.
2- في خضم الحرب الشرسة مع إسرائيل، هم لا يجدون الظرف مناسباً ليواجهوا “حماس” بحقيقة أنها غامرت في اختيار التوقيت والحيثيات والظروف، كما أنها تسلّم جزءاً أساسياً من قرارها إلى إيران التي ستستغل الحرب خدمةً لمصالحها لا مصالح الفلسطينيين والعرب، وأن هذه الحرب قد تنتهي لا بخسارة “حماس” فحسب، بل بتصفية ما بقي من القضية الفلسطينية.
الصامت الأكبر هو السلطة الفلسطينية التي تتجنب أي خضّة في الضفة الغربية والقدس، وتأمل في أن تمر العاصفة في غزة بأقل ما يمكن من الأضرار. وكذلك، يبدو معبّراً صمت كل القوى العربية الكبرى، ولا سيما مصر وغالبية الخليجيين.
ولكن، منطقياً، لا يجوز لأي تنظيم أن ينزلق إلى الحرب من دون أن يراجع نتائجها باستمرار.
وفي ما يتعلق بحرب غزة المندلعة منذ 7 أشهر، يمكن استنتاج ما يأتي: سيطرت إسرائيل على نحو 80% من القطاع الذي بات مدمراً ومهجراً بنسبة كبيرة. وهي اليوم في صدد اجتياح آخر بقعة فيه، رفح، بعد تهجيرها وتدميرها. وأما “حماس” فخسرت جزءاً كبيراً من قدراتها وساحاتها وهوامش حركتها، وهي ستضطر إلى الانتقال لاحقاً من المواجهة العسكرية المباشرة إلى أسلوب حرب العصابات. وهذا الأسلوب سيكبد الإسرائيليين خسائر فادحة، لكن ظروف غزة قد لا تسمح باعتماده طويلاً، خصوصاً إذا انسحب الإسرائيليون ووضعوا الأمن تحت نوع من الإدارة الفلسطينية والعربية والإسلامية.
في عبارة أخرى، قبل 7 أشهر، كانت “حماس” أقوى، وكانت إسرائيل أبعد من غزة، وكان الفلسطينيون- بمن فيهم السلطة- أكثر قدرة على المناورة، لأنّ في أيديهم أوراق قوية. وفوق ذلك، لم يكن الإسرائيليون يحظون بهذا المقدار من المساعدات العسكرية الأميركية والأوروبية ولا بالتغطية السياسية لارتكاب مجازر ذهب ضحيتها حتى الآن نحو 40 ألف قتيل فلسطيني و100 ألف جريح ومعوّق. وهذا يطرح سؤالاً عن التصوّر العسكري والسياسي الذي على أساسه نفّذت “حماس” عملية تشرين الأول. فالخسائر المحققة من الحرب حتى الآن أكبر من الأرباح بأضعاف مضاعفة. والهدف الذي تتحدث عنه “حماس”، أي دفع القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمامات الدولية، يبدو غير مضمون إذا نجح الإسرائيليون في سحق غزة. وليس في الأفق مكسب فلسطيني آخر، إلا إذا كانت “حماس” وحلفاؤها يخبئون مفاجأة معينة ستقود إلى انتصار في لحظة معينة. ولا شيء يوحي بذلك.
إن عدم إجراء تقويم حقيقي للحرب ونتائجها المحققة والمتوقعة يعني أنّ المضيّ فيها مغامرة. ولكن، في العالم العربي، يسود الانفعال لا العقل عندما تقرع طبول الحرب وتدوي المدافع ويتعالى صراخ الأطفال والنساء والشيوخ، فيما اللحظة تستوجب العكس. ومن المحزن أن يعتاد العرب التهليل بالانتصار، فيما هم فعلاً في وضعية الانكسار.
ما يقال في غزة ينطبق على الجنوب اللبناني، ولو جزئياً. فإسرائيل تتلقى الضربات على الحدود الشمالية، وسكانها مهجرون من هناك، ضمن مشروع “المشاغلة” عن حرب غزة. لكن الأثمان التي دفعها لبنان بالبشر والحجر، حتى اليوم، أكبر بكثير من تلك التي تكبدها الإسرائيليون: عدد القتلى بين المقاتلين والمدنيين، حجم الدمار الواسع في القرى، وتعطيل الحياة الاقتصادية في الجنوب وانعكاسات التوتر على وضع لبنان المنكوب أساساً.
وقد تتوسع الحرب جنوباً أو تبقى ضمن هوامشها الحالية. ولكن، في الحالين، حجم الخسائر في لبنان أكبر بكثير من فوائد “المشاغلة”. وسيكون الوضع كارثياً في لبنان إذا طالت حرب غزة شهوراً أو سنوات، قبل أن تستقر على حال من الهدوء.
إذاً، من غزة إلى الجنوب اللبناني، لا تقال الحقائق “المكبوتة”. ولذلك، قد يأتي اليوم الذي يضطر فيه الجميع إلى مواجهة الوقائع كما هي، ولكن بعد خراب البصرة، حيث لا مجال للعودة إلى الوراء؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | لا سلاح في شمال الليطاني أيضاً | استنفار قيادي درزي منعاً لأي مغامرة |