جنبلاط يلجأ إلى المنطقة الآمنة
جنبلاط دعا أبناء الجبل إلى التعاطي بأعلى درجات المسؤولية مع الوافدين، وتقديم ما أمكن من الدعم لهم. وعندما قيل له إن هذا المقدار من الترحيب بالنازحين من الجنوب سيكون صعباً بسبب ترسبات 7 أيار 2008 التي ما زالت راسخة في الأذهان، أجاب: علينا أن ننسى كل شيء الآن نحن في ظرف استثنائي ولا مجال فيه للنظر إلى الوراء
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
منذ اندلاع الحرب في الجنوب، تتوالى رسائل وليد جنبلاط إلى “الذين يعنيهم الأمر”، ومفادها الآتي: أنا لا أشارك قوى المعارضة مواقفها التي تحمّل “حزب الله” المسؤولية عن جرّ الجنوب ولبنان إلى الحرب. بل إنني انتقلت إلى تموضع سياسي جديد، خارج صف المعارضة.
واضح أنّ موقف جنبلاط ليس ناتجاً عن اقتناع سياسي، بل عن خشية من التداعيات المحتملة لأي حرب إسرائيلية واسعة على الداخل اللبناني. ففي الواقع، يدرك جنبلاط أن مطالبة “الحزب” بالتخلي عن حرب “المشاغلة” في الجنوب لن تستجاب ولن يكون لها أي مردود عملي سوى خلق توتر بين “الحزب” والقوى المعارضة. وهذا التوتر لا يمكن تحمل تداعياته، خصوصاً إذا وسعت إسرائيل حربها لتشمل لبنان كله.
ولذلك، منذ اللحظة الأولى، سارع جنبلاط إلى تكثيف لقاءاته مع كوادر الحزب التقدمي الاشتراكي والفاعليات الدرزية في الجبل، ووضعهم في أجواء الأخطار المحتملة، خصوصاً إذا أدت أي حرب إسرائيلية على لبنان إلى تهجير واسع للأهالي من الجنوب.
جنبلاط دعا أبناء الجبل إلى التعاطي بأعلى درجات المسؤولية مع الوافدين، وتقديم ما أمكن من الدعم لهم. وعندما قيل له إن هذا المقدار من الترحيب بالنازحين من الجنوب سيكون صعباً أحياناً بسبب ترسبات 7 أيار 2008 التي ما زالت راسخة في الأذهان، أجاب: علينا أن ننسى كل شيء الآن. نحن في ظرف استثنائي ولا مجال فيه للنظر إلى الوراء.
جنبلاط أوعز بتكثيف أطر التعاون بين كوادر الحزب التقدمي الاشتراكي وكوادر “حزب الله” في الجبل، وتفعيل اللقاءات الدورية بين الطرفين لضمان المناخ الأفضل في الجبل. وفيما فُتِحت خطوط الاتصال مع أركان “حزب الله” الذين زاروه في كليمنصو، أطلق جنبلاط مواقف من حرب الجنوب وغزة تتناقض ومواقف المعارضة، إذ وصف ما يقوم به “الحزب” حالياً بأنه “دفاع عن لبنان”. وطبعاً، هو تجنب المشاركة في اللقاء الذي ضم قوى وشخصيات معارضة في معراب.
وليس صعباً على جنبلاط فتح الخطوط السياسية مع “الحزب”. فهو أساساً “صديق دائم” لأحد ركني “الثنائي الشيعي”، الرئيس نبيه بري الذي أخذ على عاتقه جزءاً أساسياً من المهمة. لكن بري سيعمل لاحقاً على تثمير هذه الوساطة وتموضع جنبلاط الجديد، في اللعبة السياسية الداخلية، ولا سيما في الملف الرئاسي. ويقول أحد السياسيين ممازحاً: ولكن، على بري تسريع الملفات قبل أن يتبدل جنبلاط مجدداً ويعود إلى تموضعه السابق!
وفي الواقع، اعتادت القوى السياسية كلها، منذ العام 2005، على تقلبات جنبلاط السريعة، حتى إنها لم تعد تفاجأ بها. بل إن القوى المنضوية في معسكري 14 آذار و8 آذار السابقين باتت تتقبل ضمناً أن “جنبلاط هو جنبلاط”، وأنه ليس ركناً ثابتاً لا في هذا المعسكر ولا في ذاك. وبات الجميع يدركون أن للرجل اقتناعاته السياسية، من دون شك، لكنه يخبئها إذا لم يكن الظرف يسمح بالمجاهرة بها، وينصاع لمقتضيات المصالح فقط لا غير.
القريبون من جنبلاط يقاربون المسألة من زاوية أخرى. يقولون: إنه لا “ينقلب” في كل مرة، ولا “ينقل البارودة من كتف إلى أخرى”، بل يتصرف براغماتياً، كما يقتضي منه العمل السياسي. فالتبديل في التكتيك يفرضه التبدل في الظروف والوقائع، لا المزاج، لأن السياسة هي فن الممكن. وأي سلوك سياسي يرتكز إلى الأمنيات وليس إلى المعطيات بدقة وواقعية، تكون نتائجه كارثية.
من خلال أقنية الاتصال التي يقيمها، أدرك جنبلاط أن الأميركيين والفرنسيين والعرب يدورون اليوم في الفراغ، إقليمياً ولبنانياً. وفي اعتقاده أن المرحلة الآتية ستكون صعبة جداً في الشرق الأوسط، وأن الجميع فيها محشور: “حماس” و”حزب الله” وإيران وبنيامين نتنياهو وإدارة جو بايدن. وأما اللبنانيون فلا أحد في العالم مستعد للانشغال بشؤونهم، مهما كبرت معاناتهم. ولذلك، يجب عليهم إمرار هذه المرحلة بحكمة وتعقل، لتمر بأقل قدر من الخسائر، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث.
وفي أي حال، على الساحة اللبنانية، ليس جنبلاط وحده الذي اختار المداراة، ريثما ينجلي الغبار ويتحسن الانقشاع. فقوى المعارضة كلها تدرس المعطيات بهدوء وتتأنى في كل خطوة. وصحيح أن القوى المسيحية تتخذ اليوم تموضعاً واضحاً لا تَراجُع فيه عن الثوابت، إلا أنها في المقابل لا تتهوَّر.
هي مرحلة يسودها التخبط والغموض: من خلط الأوراق المرتقب بعد حرب غزة، إلى دخول حرب أوكرانيا في مرحلة أكثر حساسية، إلى المتغيرات المتوقعة في طهران نتيجة غياب ابراهيم رئيسي، وفي واشنطن نتيجة الانتخابات الرئاسية في الخريف.
وحتى انجلاء الصورة، ما من طرف في لبنان أو في أي بلد شرق أوسطي يجرؤ على المغامرة والدفع برأسه عشوائياً وسط الغبار الكثيف، لأن أياً كان يصبح شرساً عندما يكون في معركة عنوانها الحياة أو الموت.
مواضيع مماثلة للكاتب:
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | لا سلاح في شمال الليطاني أيضاً | استنفار قيادي درزي منعاً لأي مغامرة |