خمسون عامًا على اختطاف ميشال أبو جودة.. قصة رقم السيارة 239629 التي اختطفته
على رغم مرور نصف قرن فإنّ إعادة تركيب السيناريو الحقيقي لعملية اختطاف ميشال أبو جودة والتي رواها قريبون ومقرَّبون منه، ومنهم ابن شقيقته، تُظهِر أنّ لبنان لم يتغيَّر وأنّ “اللعبة” مستمرة وإنْ تغيَّر “اللاعبون”
كتب جان الفغالي لـ “هنا لبنان”:
مرَّت هذا الأسبوع الذكرى الخمسون لاختطاف الصحافي ميشال أبو جودة صاحب المقالة اليومية في صحيفة النهار تحت عنوان “من حقيبة النهار”. على رغم مرور نصف قرن فإنّ إعادة تركيب السيناريو الحقيقي لعملية الاختطاف، والتي رواها قريبون ومقرَّبون منه، ومنهم ابن شقيقته، تُظهِر أنّ لبنان لم يتغيَّر وأن “اللعبة” مستمرة وإنْ تغيَّر “اللاعبون”. فكان هناك رؤيويون كالأستاذ ميشال أبو جودة الذي كاد أن يدفع حياته ثمنًا لِسعةِ معلوماته وعمق تحليله، وحوَّل عموده في صحيفة النهار إلى “التقرير الأول والأهم” على طاولة صناع القرار في العالم العربي كل صباح.
في الثالث من تموز 1974، دخل ميشال أبو جودة إلى مكتبه في “النهار” في الحمرا ، متوترًا على غير عادته. نادى على أحد الأشخاص قائلًا : “أنظر إلى هذه السيارة المتوقفة أمام وزارة السياحة (وكان مكتبه يطل على الشارع الرئيسي) انزل وخذ رقمها”، نزل الشخص وعاد ليخبر أستاذ ميشال أنّ رقمها 239629، وهي من نوع فيات وفيها ثلاثة شبان. وتبيَّن لاحقًا أنّ تلك السيارة كانت تلاحق ميشال أبو جودة قبل شهر من اختطافه.
مساء ذلك النهار، حاول ميشال أبو جودة التمويه، فطلب من سائقه الانصراف، وطلب من الأستاذ سمير عطالله أن يوصله بسيارته إلى فندق كارلتون حيث كان يقيم. لم ينفع التمويه إذ ما إن تحركت سيارة سمير عطالله حتى لاقتها السيارة التي كانت تراقب ميشال أبو جودة، قطعت الطريق على السيارة وحاول الشبان الثلاثة إنزال أبو جودة بالقوة لكنه تمسك بباب السيارة فأطلق عليه المسلحون رصاصة أصابته في يده وتمكنوا من خطفه.
بعد قليل، أذاع تلفزيون لبنان خبر خطف الصحافي ميشال أبو جودة، توافد مسؤولون وشخصيات إلى مبنى النهار وفي طليعتهم وزير الداخلية بهيج تقي الدين وغسان التويني وانضم إليهما أبو حسن سلامة موفدًا من أبو عمار ومعه أبو الزعيم ومسؤول يدعى هواري. رن الهاتف، “الخط للوزير تقي الدين من القصر الجمهوري” الذي أبلغ إلى وزير الداخلية أنّ أبو جودة عند حركة فتح. توجه وزير الداخلية بالكلام إلى أبو حسن سلامة قائلًا: “ميشال لديكم”، رد سلامة غاضبًا: كيف نخطفه ونحن هنا؟ قال تقي الدين: “الاتصال من القصر الجمهوري ، وهم أبلغوني بذلك”. اتصل غسان التويني بكمال جنبلاط وأخبره بتفاصيل ما يجري، فطلب جنبلاط التكلم مع وزير الداخلية ونصحه أن يبحث في اتجاه آخر غير أنّ أبو جودة عند فتح.
تحرَّك جهاز أمن 17 التابع لحركة فتح، مع قوى الأمن الداخلي، واستطاع الوصول إلى مقر الخاطفين، وعرف منهم قائد المجموعة الخاطفة، الذي توارى، وهو أحمد حسيب الخطيب، فلسطيني ينتمي إلى تنظيم الصاعقة القريبة من سوريا.
في التحقيق مع الموقوفين اعترفوا أنهم سلموا أبو جودة إلى مسؤول الصاعقة في لبنان ماجد محسن شقيق رئيس منظمة الصاعقة زهير محسن، بات أبو جودة ليلته في طبقة سفلية من بناية مكتب الصاعقة في أرض جلول، ثم نقل في اليوم التالي إلى سوريا في عملية مثيرة.
تمت عملية النقل داخل نعش لف بالعلم الفلسطيني على أساس أنه يضم جثمان شهيد سقط في الجنوب اللبناني لدفنه في مخيم اليرموك، وتمت الاستعانة بسيارة تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني وسارت في موكب مؤلف من أربع سيارات تتقدمها السيارة التي تحمل النعش وكان صوت القرآن الكريم ينطلق من السيارة التي تتقدم الموكب.
بعد قطع الحدود السورية توجه الموكب إلى مزرعة ميسلون القريبة من الحدود حيث أنزلوا النعش.
حقق معه في سوريا السكرتير الشخصي لرفعت الأسد، محمد ديب، ودار التحقيق حول علاقة ميشال بمعارضين سوريين وبالتحديد صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني وميشال عفلق، وكانت التهمة أنه كان يحاول تقريب وجهات النظر بين النظام العراقي ومعارضين سوريين من أجل التحضير لانقلاب على نظام حافظ الأسد.
وكانت أسئلة عن علاقات جريدة النهار بالسفارات الأجنبية وبالتحديد علاقة غسان التويني بالمخابرات المركزية الأميركية، كما استوضحوا منه بعض المقالات التي رأوا فيها معلومات حول خطر داهم على النظام السوري وعن علاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية وبالتحديد حركة فتح وأبو عمار.
اضطر النظام السوري للاعتراف بمسؤوليته عن عملية الخطف نتيجة لضغوط دولية وعربية ومحلية، بعدما حاول إلصاق تهمة الخطف بمنظمة التحرير الفلسطينية.
فجر الاثنين 8 تموز 1974، دخل رفعت الأسد إلى مكان احتجاز أبو جودة وقال له: “ستعود إلى لبنان ونتمنى أن ينتهي الموضوع سريعاً، ولا داعي للبلبلة حول هذه المسألة وإلا نحن قادرون على إعادة الكرة” وفي الرابعة فجراً تسلم العقيد أنطوان دحداح مدير الأمن العام، أبو جودة في بلدة جديتا ورافقه إلى قصر بعبدا حيث كان ينتظره الرئيس سليمان فرنجية.
عاد ميشال أبو جودة إلى “النهار”، لم يتراجع عن كتابة مقاله اليومي في الصفحة الأولى تحت عنوان”من حقيبة النهار”، بقي مثابرًا على الكتابة حتى وفاته عام 1992 ، مُنهيًا ثمانية وثلاثين عامًا من الكتابة ، وخاتمًا حقبةً من العصر الذهبي من “صحافة المقالات والافتتاحيات” التي كانت مدرسةً في الصحافة اللبنانية والعربية، حاول كثيرون، عبثًا، تقليدها. أما الإرث العظيم لهذا القلم الذي لا يتكرر، فضمَّه ابن أخيه، الدكتور فلاح أبو جودة، في مجموعة كتب جمَع فيها مقالات له، تشكِّل تأريخًا للحقبة التي كتب فيها “من حقيبة النهار”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
هل سقطت معادلة “الشعب والجيش و… إيران”؟ | راقبوا الميدان… الحرب في بدايتها | لبنان أمام عشرة أسابيع حاسمة |