لماذا يربح “حزب الله” ويخسر الآخرون؟
الوقائع التي يشهدها الجنوب والشرق الأوسط عموماً تدفع إلى الاعتقاد بأن الثنائي الشيعي مرشح ليبقى الأقوى داخلياً. وقد يعني ذلك أن تبقى له القدرة على المشاركة في التفاهمات والتسويات الإقليمية المقبلة، بدءاً من التسوية التي تتم مفاوضته عليها في الجنوب، تحت رعاية أميركية ومباركة دولية شاملة
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
في لبنان، ما تقوله الطوائف علانية يعاكس تماماً ما يردده أبناؤها وأربابها السياسيون والدينيون في الغرف المقفلة. وهذا يعني الطوائف الآخذة في التوسّع دينامياً، كالشيعة مثلاً، كما الطوائف التي تحاول تثبيت الحضور كالمسيحيين.
ليس مجدياً إخفاء ما يدور في كواليس الطوائف. وعلى العكس، هو يعزز سلوك المخادعة المتبادل وينزلق بالجميع إلى الأوهام التي لا يمكن إطلاقاً أن تعيد بناء الدولة وترمم الكيان المتزعزع.
لا حاجة إلى كشف ما يقوله قادة الشيعة، وما يردده أنصارهم من أبناء الطائفة استطراداً. فمن الواضح أن هذه الطائفة التي وصلت إلى “التعملق” مع “حزب الله”، لن ترضى بأقل من تبوؤ الموقع الأول في ترتيب الطوائف في لبنان. وفي العمق، يقول هؤلاء إنّ لبنان الـ100 عام السابقة، الذي قام على صيغة ابتكرها المسيحيون والسنّة، وأمسكت بمفاصل السلطة والمال، وحتى بالثقافة والفن، يجب أن تنتهي، ليأتي الدور إلى الشيعة. وهذا الدور القيادي للطائفة لا يمكن أن تحققه إلا إذا احتفظت بكل أوراق القوة التي تملكها، وفي طليعتها السلاح وقرارات الحرب والسلم والإمساك بمفاصل الإدارة.
وفي الفترة الأخيرة، لم يعد أركان “الثنائي” والأنصار ينكرون “اتهام” الآخرين لهم بالاستقواء. وعلى العكس، هم باتوا يسعون إلى إقناع الآخرين بقبول هذا الواقع والتعايش معه.
في المقابل، يميل مزاج المسيحييين عموماً إلى الدفاع. فهم يسعون إلى التمسك بما بقي لهم من مكتسبات قديمة. لكنهم في الواقع يخسرونها تباعاً، والأبرز هو موقع رئاسة الجمهورية الذي بات منذ عقود رهناً بخيارات “الثنائي” في الدرجة الأولى. وفي الواقع، “الثنائي” يمسك برئاسة المجلس النيابي بشكل مباشر وشخصي، كما يمسك برئاسة الجمهورية بإحكام تام. وبذلك، يصبح موقع رئاسة الحكومة بحكم “الساقط عسكرياً”، لأن الموقعين الأخيرين هما معاً أقوى منه بكثير.
الكلام المتداول داخل البيئة المسيحية هو أن هذه “الدولة” لم تعد “دولتَنا” أو “دولةً لنا”. فكل شيء تبدل، وخسر لبنان طابعه المميز. وهنا يُسمع الكثير من الطروحات التي تبدأ بأنماط اللامركزية الإدارية والمالية والسياسية، ولا تنتهي بالفدرالية بل بما يشبه التقسيم. ويذهب البعض إلى القول: فليحتفظ “حزب الله” بسلاحه. بل، فليصبح شرعياً. ولكن، في مناطقه فقط. وليكن للآخرين أيضاً ما لـ”الحزب” تماماً. فهذه مقتضيات المساواة والعدالة بين أبناء شعب واحد في وطن واحد.
طبعاً، هذا الكلام العام لا ينفي أن التشرذم هو القاعدة بين قادة المسيحيين. فلا عصبية أو عقيدة أو مشروع مشترك أو مصالح تجمعهم، على غرار قادة الشيعة. ومنهم من قرر مواجهة الواقع جدياً، ومنهم من يكتفي بالشعارات لشدّ العصب. ومنهم من قرر أن يحني الرأس براغماتياً لعل العاصفة تمر. ومنهم من قرر الاستفادة من الظرف طمعاً بالمكاسب على أنواعها، إذ “ليس في الإمكان أفضل مما كان”. وفي أي حال، هذا التشرذم يقدم خدمة ثمينة لـ”الثنائي”، لأنه يسمح له بالتمدد داخل البيئة المسيحية.
وفي الحديث عن “سقوط” موقع مجلس الوزراء أيضاً، ينجلي المناخ السني. فبعد الحريرية السياسية، لم تعد للطائفة قيادة واسعة، بل عادت إلى ما كانت عليه قبل الطائف: مجموعة قوى مناطقية من عكار وطرابلس وبيروت إلى صيدا وإقليم الخروب والبقاع. وثمة إرباك داخل الطائفة في ما خصّ الرعاية الإقليمية للحالة السنية في لبنان، في ضوء التحولات التي عصفت بالشرق الأوسط والعالم العربي في العقدين الأخيرين، ولا سيما تلك التي طاولت أدوار السعودية ومصر وقطر وتركيا، فيما يرتكز الشيعة إلى دعم إيران الدائم والثابت والكامل، والذي يصل إلى حد الاستعداد لدخول الحرب في مواجهة إسرائيل، إذا تعرض هؤلاء للخطر.
وفي الواقع، هناك عامل أساسي يرتاح إليه السنّة هو الديموغرافيا. فهم عددياً يتفوقون على الشيعة بمقدار طفيف، ولكن ثمة من يقول إن في لبنان أيضاً نحو 3 ملايين سني، سوري وفلسطيني. وهذا العامل لا يجوز إهماله تماماً في تحليل المعطيات داخل الواقع اللبناني.
وأما الدروز، فيحاولون مرة أخرى إيجاد المكان الذي يحفظون فيه الرأس، باعتبارهم أقلية عددية، سواء في التعاطي مع القوى الداخلية أو في ما خصّ وضعهم الديموغرافي والسياسي الحساس عند مثلث لبنان- سوريا- إسرائيل. ومن الواضح أن وليد جنبلاط دخل على الخط بقوة، منذ اندلاع الحرب في غزة والجنوب، لإدارة الدفة وفق ما يجب، وأعاد ترميم علاقاته بـ”حزب الله” لأن ذلك “أضمن”.
وما يجدر استنتاجه أن الوقائع التي يشهدها الجنوب والشرق الأوسط عموماً تدفع إلى الاعتقاد بأن الثنائي الشيعي مرشح ليبقى الأقوى داخلياً. وقد يعني ذلك أن تبقى له القدرة على المشاركة في التفاهمات والتسويات الإقليمية المقبلة، بدءاً من التسوية التي تتم مفاوضته عليها في الجنوب، تحت رعاية أميركية ومباركة دولية شاملة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | لا سلاح في شمال الليطاني أيضاً | استنفار قيادي درزي منعاً لأي مغامرة |