التابوت وسيارة النائب!


خاص 26 آب, 2024

ينتهي الدفن، تعود الأم إلى بيتها لتعانق الوجع حتى الموت، ويعود التابوت الأبيض إلى المقبرة، وتعود السيارة بالنائب إلى البرلمان حيث يصوّتون “بالنظام” على موتنا بمشيئتهم


كتب جوزف طوق لـ”هنا لبنان”:

أبيض، أبيض، أبيض… أبيض لون التوابيت، وأبيض لون الشرائط التي ترفرف حزناً، وأبيض لون ثياب الأهل الذين يدفنون أولادهم قبل موعد موتهم الطبيعي بكثير، وأبيض زيّ فرق “الزفّة” التي لم تعد تغيب عن مآتمنا من الجنوب إلى الشمال، وأبيض لون وجعنا الذي بات يموت “عالسكت” ولا يجد من يعزّيه.
مآتمنا البيضاء، ناصعة الدمعة والحسرة، وما من شيء يلطّخها إلّا زجاج سيارة النائب الداكن ولون موكبه الأسود. في كلّ مدينة، وفي كلّ قرية، وأمام كل جامع وكنيسة، وبين حشود المصلّين والمعزّين والمفجوعين في ساحات دور العبادة، نترك مكاناً فارغاً حتى يركن النائب سيارته، وحتى ينشر مرافقيه المسلّحين بلا إزعاج… فالنائب “مش فاضي يبرم عصفّة”، مستعجل، فلديه غير هذا المأتم الكثير من واجبات تقديم العزاء في القرى المجاورة، وهل هناك من وقت أفضل من لحظات وداع الأحبة للتأثير على الناخبين وكسب صوتهم، المبحوح ربما الآن من كثرة البكاء، ولكن الشجي طبعاً في زمن الانتخابات ومقابر الأصوات.
سيارة النائب، لئيمة وحقيرة وحتى عاهرة، تدخل ساحات الوجع وهي تتغندر على إطاراتها الأربعة الجديدة… لا تلفّ ولا تدور، تتوجه مباشرة إلى ذلك المكان الفارغ المحجوز لها، ويُفسح أولئك المكسورة قلوبهم لها المجال حتى لا يصيبها خدش أو جرح، أو ربما يخافون ألّا يصيبها بعض من وجعهم فينزعج موديلها الحديث.
ماذا حلّ بنا؟ ومتى أصبحنا هذا الشعب الذي يخاف من سيارة نائب ويعاتب الله على مآسيه؟ كيف أتقنّا هذا الكفر غير الموصوف، ومتى أصابنا جهل خرّب عقولنا التي يجب عليها أن تخاف الله وتعاتب النائب على مآسيها؟
لم يعد صحيحاً أن الانسان يموت عندما تأتي ساعته، أبداً غير صحيح، فالله لا يرضى بكل هذا الألم لمن يعبدونه ويلجأون إليه. في لبنان، الإنسانَن يموت عندما يقرّر النائب ساعته. كل طريق غير مؤهّل بأدنى معايير السلامة والأمان ليس من عمل الله، وكل رصاص طائش يسقط على رؤوسنا ليس من عمل الله، وكل مبنى متهالك يدفن القاطنين فيه ليس من عمل الله، وكل شحنة قمح أو لحم فاسد تجتاح أسواقنا، وكل السلاح المتفلّت في شوارعنا، وكل الاشتباكات الطائفية والأمنية ليست من عمل الله، وكل المواد المسرطنة على رفوف المحلات، وكل الأدوية المغشوشة ليست من عمل الله، وكل الكهرباء المقطوعة عن ماكينات غسيل الكلى أو ضخ الأوكسيجين ليست من عمل الله، وكل الإهمال في سلامة أطفالنا ليس من عمل الله.
الله لا يريد للأم الراكعة على سجادتها أو في الكنيسة أن تدفن إبنتها أو إبنها، والله لا يريد للآباء الذين يفنون صحتهم بكثرة الضمير والاستقامة أن تنكسر قلوبهم على أولادهم… ولكن النائب يفعل ذلك براحة ضمير، طالما أنه يملك من التكبّر والعنجهية ما يسمح له بأن يكون واجبه الوحيد هو تقديم العزاء، مهملاً كل واجباته الأخرى.
“ليش يا ربّي” ولماذا أنا؟ هي أكثر جملة ممكن أن نسمعها مع كل كارثة وفاجعة موت شاب أو صبية أو طفل… ولكن الله يرى ويسمع، ولا ينتظر منّا أن نسأله عن مصائبنا المفروضة علينا من نوّاب ومسؤولين غير مكترثين لموتنا ولا حتى لحياتنا. من المؤكّد أن الله ينتظر منّا أن نرى المشكلة، ونعرف أنه غير مسؤول ولا حتى يرضى بموت عائلة على طريق مهملة منذ سنوات، أو بموت ربّ عائلة في معمل أو شركة ليس فيها أدنى مقومات الأمان. والله لا يقبل دهس طفل على مدخل مدرسة تهتمّ بأقساطها أكثر مما تهتمّ بسلامة أطفالنا.
“ليش يا نائب، وليش يا مسؤول؟” هو السؤال الوحيد المفروض أن يكون على لساننا ويعلو تحت التوابيت البيضاء في ساحاتنا… وعندها لن نرتاح نحن فقط، بل الله أيضاً سيرتاح من وجعنا الذي نفرضه على أنفسنا محبّة بنائب أو زعيم.
ينتهي الدفن، تعود الأم إلى بيتها لتعانق الوجع حتى الموت، ويعود التابوت الأبيض إلى المقبرة، وتعود السيارة بالنائب إلى البرلمان حيث يصوّتون “بالنظام” على موتنا بمشيئتهم.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us