منطقة نفوذ لـ”حزب الله” والبقية تأتي!
حروب إسرائيل اليوم ستغير الخرائط والمعادلات في الشرق الأوسط: بالتأكيد، هي ستعدل في الخريطة الفلسطينية- الإسرائيلية، وستفرض وقائع جديدة في العديد من الكيانات العربية الواقعة على خط التماس مع إسرائيل، أي الأردن وسوريا ومصر ربما، ولبنان أيضاً
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
الشرق الأوسط يغلي، وكياناته تهتزّ من الداخل. ومع أن بؤرة النار الأساسية هي اليوم غزة، فالشرارة انتقلت إلى الضفة الغربية وجنوب لبنان. ومن المثير أنّ هذه النار أشعلتها “حماس”، لكن إسرائيل لن تطفئها إلا بعد إحداث التغييرات التي تناسبها، جغرافياً وديموغرافياً، ولبنان ليس بعيداً منها.
عشية انفجار الحرب في غزة، كانت الكواليس الدولية تضج بكلام على اتفاقات سلام وتطبيع جديدة يجري تحضيرها بين إسرائيل والعرب. في تلك الفترة، سئل ديبلوماسي غربي في بيروت: في اعتقادكم، هل إن إسرائيل متحمسة فعلاً لتعميم حال السلام والتطبيع في شكل ثابت ودائم مع العرب؟
فأجاب: لسنوات عدة مقبلة، إسرائيل لن تحسم هذا الاتجاه، لا حرباً ولا سلماً. فهي تتجنب حرباً مع العرب لا فائدة منها، لكنها لا ترغب في تعميم سلام نهائي، لأنه يجعل الكيانات والأنظمة العربية في استقرار دائم، ويتيح ازدهارها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وهذا النمو سيخلق دولاً عربية قوية ومستقرة، ما يهدد تفوُّق إسرائيل الإقليمي.
كما أنّ دولاً عربية كبرى، كالمملكة العربية السعودية، تربط السلام مع إسرائيل بحل دائم في الملف الفلسطيني، يقوم على أساس الدولتين ومبادرة بيروت 2002. وهذا الحل تتهرب منه إسرائيل، وتعمل في المقابل على محو مفاعيل اتفاق أوسلو وتصفية القضية الفلسطينية تماماً.
فما تريده إسرائيل فعلاً، في تقدير الديبلوماسي الغربي، هو “ستاتيكو” اللاحرب واللاسلم مع العرب. إذ يمكنها في ظله أن تستثمر “الخطر” الإيراني على وجودها و”عنوان” العداء للعرب كي تحافظ على حضانة الغرب ودعمه الكامل لها، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. كما أن هذه الحال من عدم الاستقرار تفتح الباب للتوترات والحروب الدائمة داخل الكيانات العربية الغارقة في الفوضى. وهذا الأمر حققته إسرائيل فعلاً منذ ربع قرن، أي منذ حرب العراق ثم حروب الكيانات والأنظمة في “الربيع العربي.
هذا الكلام يوضح لماذا تتعثر المساعي الجارية لوقف النار وتبادل الرهائن في غزة، خصوصاً أنّ الحكم في إسرائيل يتولاه اليوم فريق اليمين واليمين المتطرف، أي أصحاب النظرية الدينية التي تتخذ من التوراة برنامجَ عملٍ وحيداً. وللمفارقة، إنّ نتنياهو يُعتبر “معتدلاً” داخل هذا الفريق الذي لن ينهي حرب غزة إلا بالسيطرة عليها تماماً، وتسليمها إلى إدارة فلسطينية موالية لإسرائيل أو عربية، وتهجير نصف سكان القطاع على الأقل، ثم المباشرة ببرنامج استيطان واسع النطاق يقضمه تدريجاً ويؤدي إلى محو الشخصية الفلسطينية يوماً بعد يوم، كما يحدث منذ سنوات في الضفة، حيث يبدو أنّ الإسرائيليين باشروا خطواتهم الأخيرة لابتلاعها بالكامل، بعد تهجير قسم كبير من أهلها إلى الأردن، حيث الغالبية السكانية من أصول فلسطينية. وفي هذه العملية، ستتغير الجغرافيا والديموغرافيا في غزة والضفة والأردن في آن واحد.
وأما في لبنان، فيُفترض ألا تكون لإسرائيل مصلحة في التلاعب بالديموغرافيا، كما تفعل في المناطق الفلسطينية، إذا لم تكن فعلاً طامعة بأرض الجنوب، وإذا كان هدفها يقتصر على ضمان الأمن بإقامة منطقة عازلة. وفي أي حال، هي تساوم “حزب الله” على صفقة معينة توفر من خلالها الأمن للمنطقة الشمالية. وقد تردد كلام كثير عن “إغراء” “الحزب” بالاعتراف بنفوذه الحالي في لبنان، إذا وافق على المطلوب إسرائيلياً.
هذه الصفقة، إذا تمت، ستكون قاسية بمفاعيلها على الداخل اللبناني، لأنها ستستنفر تلقائياً كل الفئات السياسية والطائفية الأخرى، رفضاً لسيطرة “الحزب”. وستقود اللبنانيين إلى أن يحسموا أمرهم بين خيارين: إما التوافق على صيغة جديدة تنظم القواعد الجديدة للعيش المشترك، وإما الدخول في مواجهة سياسية- طائفية لا أفق لها تكرس انفراط البلد المتزعزع أساساً.
فلبنان الكبير، بتركيبته الحالية، لم يعِش موحداً سوى قرابة نصف قرن (1920- 1975). وفي نصف القرن التالي، اندلعت فيه حروب متلاحقة زعزعت وحدته سياسياً وطائفياً. والأهم هو أنّ غالبية الفئات تعيش طلاقاً نفسياً عن الفئات الأخرى، والحروب مستمرة.
ولذلك، قد يكون لبنان مقبلاً على تغييرات تفرضها الوقائع الجارية في الأراضي الفلسطينية والجنوب. وإذا كان “حزب الله” سيحتفظ بالنفوذ في مناطقه، كأمر واقع أو كمكافأة له باعتراف إقليمي ودولي، كما يتردد في بعض الأوساط، فهذا سيبرر للآخرين أيضاً أن يكون لهم نفوذ في مناطق أخرى، أي أن تكون لهم أيضاً مناطقهم.
وفي بلد ذي تركيبة معقدة، كلبنان، ليس واقعياً الافتراض أن الجميع سيخضع لفئة واحدة، خصوصاً أن هذه الفئة ستبقى أقلية قياساً إلى مجموع الآخرين. وإذا أنشأت أي فئة منطقة نفوذها، داخل الحدود الجغرافية للبلد الواحد، فإنها ستدفع الآخرين إلى إنشاء مناطق نفوذههم أيضاً. وهذا سيحصل عاجلاً أو آجلاً، لأن موازين القوى لا يمكن أن تبقى ثابتة مع تغير الأيام والظروف.
لذلك، حروب إسرائيل اليوم ستغير الخرائط والمعادلات في الشرق الأوسط: بالتأكيد، هي ستعدل في الخريطة الفلسطينية- الإسرائيلية، وستفرض وقائع جديدة في العديد من الكيانات العربية الواقعة على خط التماس مع إسرائيل، أي الأردن وسوريا ومصر ربما، ولبنان أيضاً.
مواضيع مماثلة للكاتب:
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | لا سلاح في شمال الليطاني أيضاً | استنفار قيادي درزي منعاً لأي مغامرة |