“مرشد” لبنان و”بطريرك” إيران
ماذا لو دعا البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظة أحد الشعب الإيراني للذهاب إلى الكفاح المسلح كي يتحقق “الوعد الإلهي” في إخراج إيران من دوامة الأزمات التي خلقها ولا يزال النظام هناك؟ سيأتي الجواب حتماً عنيفاً جداً باعتبار أنّ موقف المرجعية المارونية في لبنان، التي هي عملياً نظير المرجعية الشيعية في إيران التي يمثلها خامنئي، يمثل “تدخلاً” في الشؤون الإيرانية الداخلية!
كتب أحمد عياش لـ”هنا لبنان”:
عندما دعا رئيس حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع للذهاب إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفقاً للدستور مارس حقه كمرجع لأكبر كتلة في البرلمان. وذهب في دعوته في الحوار التلفزيوني الأسبوع الماضي إلى حدّ القول أنّه يقبل بجلسة لانتخاب رئيس لا تشارك فيها الطائفة الشيعية. وقال: “الدستور يجيز ذلك والميثاق الوطني أيضاً، فإذا رفض الموارنة على سبيل المثال أمراً فهل يُعطَّل البلد على أثره؟”
وأتى الرد غير المباشر من الرئيس نبيه بري عبر المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان في بيان قال فيه: “مجلس النواب لم ولن ينعقد لانتخاب رئيس جمهورية بلا النواب الشيعة، ولم يُخلَق بعد من يستطيع عزل الشيعة في لبنان، والرئيس نبيه بري هو فقط وفقط المرجعية الدستورية لأي دعوة نيابية”.
وردّت الدائرة الإعلامية في حزب “القوات اللبنانية” على منتقدي جعجع على ما دعا إليه، فأصدرت بياناً جاء فيه: “عندما خرج الثنائي نفسه من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى بهدف تعطيلها، واصلت الحكومة عملها بقوة الدستور، وبالاستناد إلى الدستور، ولم تفقد ميثاقيّتها…”
يشار إلى أنّ حكومة السنيورة المشار إليها حملت الرقم 69 منذ الاستقلال. وقد أبصرت النور في تموز 2005 بعد الانتخابات النيابية التي أجريت في شهري أيار وحزيران 2005 والتي حصل على الأغلبية فيها تحالف 14 آذار مع حركة “أمل” و”حزب الله”. في 11 تشرين الثاني 2006، أي في مثل هذا اليوم قبل 18 عاماً، استقال الوزراء الشيعة بالحكومة.
تفيد هذه العودة إلى هذا الماضي الذي ليس بعيداً من أجل مراجعة أحوال حاضر لبنان حيث أصبحت الانتخابات الرئاسية رهينة موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي وضع ولا يزال عربة هذه الانتخابات أمام حصان الدستور.
من فضائل النظام في لبنان على الرغم من أهوال الحرب التي يتعرّض لها ، أنّ برّي مثله مثل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يمثّلان الطائفتين الشيعيّة والسنيّة في السلطتين التشريعية والتنفيذية. لكنهما لا يمتلكان الحق لتمثيل الطائفة المارونية التي يعود منصب رئاسة الجمهورية إليها حصراً.
منذ نهاية تشرين الأول عام 2022 ولغاية اليوم، ما زال منصب الرئاسة الأولى شاغراً. وطوال أكثر من عامين وقف ثنائي “أمل” و”حزب الله” ضدّ تطبيق الدستور بما يتعلق بانتخاب رئيس للجمهورية. وحصل أمر مشابه عام 2014 عندما رفض “حزب الله” إجراء الانتخابات الرئاسية في ذلك الوقت. فكان له ما أراد طوال أكثر من عامين إلى أن جرى انتخاب مرشّحه وحليفه الجنرال ميشال عون في نهاية تشرين الأول عام 2016 .
هل تكون “الثالثة ثابتة” كما يقال، فتتمّ العودة إلى الأصول التي يفرضها الدستور وليس إلى ما يريده “الثنائي”؟
من المهم الإشارة إلى غياب الركن الأساسي في “الثنائي”، الأمين العام السابق لـ”حزب الله” حسن نصرالله الذي اغتالته إسرائيل في الأسبوع الأخير من أيلول الماضي. ولا يبدو أنّ خلفه الشيخ نعيم قاسم قد حلّ مكانه.
في مقابل أحادية بري في الاستحقاق الرئاسي، تطل أحادية المرشد الإيراني علي خامنئي على مستوى قرار الحرب والسلم في لبنان. واضطرّ الأخير بعد غياب نصرالله لأن يُجاهر بامتلاكه القرار كما فعل الأسبوع الفائت. فقال: “إنّ النضال المستمر اليوم بكل قوّة في لبنان وغزة وفلسطين سيؤدّي قطعاً إلى انتصار جبهة الحق وجبهة المقاومة، كما يُفهم ذلك من التطورات والوعد الإلهي”.
كان لافتاً أنّ أحادية خامنئي في تحديد مصير لبنان كانت شديدة الوطأة حتى على مستوى أسرة بري نفسها. فقد خاطب سامر كبارة، صهر الرئيس نبيه بري خامنئي قائلاً: “لقد تاجرت بأرواح اللبنانيين وممتلكاتهم وأرزاقهم، وأسلحتكم الفاشلة لم توقف مجازر العدو الصهيوني، ولم توقف تدمير الجنوب والضاحية وبعلبك، ولم تحمِ حتى من ناصرك”. وختم: “لبنان يريد وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701، أما أنت فتريد انتصارًا لمشروعك الفارسي كي تُفاوض على بقاء ما تبقى منه على حساب دماء اللبنانيين. كفى”.
ولم يصدر حتى إعداد هذا المقال أيّ تعليق أو توضيح لهذا الهجوم غير المسبوق من داخل أسرة بري.
والسؤال هنا: هل كان الأمر ليكون كذلك، لو أنّ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي دعا في عظة أحد الشعب الإيراني للذهاب إلى الكفاح المسلح كي يتحقّق “الوعد الإلهي” في إخراج إيران من دوامة الأزمات التي خلقها ولا يزال النظام هناك؟
سيأتي الجواب حتماً عنيفاً جدًّا باعتبار أنّ موقف المرجعية المارونية في لبنان، التي هي عملياً نظير المرجعية الشيعيّة في إيران التي يمثّلها خامنئي، يمثّل “تدخلًا” في الشؤون الإيرانية الداخلية.
علماً أنّ ما قاله جعجع الأسبوع الماضي كان تدخّلًا في قضية دستورية ذات صلة بالموارنة في لبنان. لكنه مع ذلك لم يسلم من الانتقاد.
فهل أصبحت المعادلة التي يفرضها مرشد إيران ويمتثل لها بري هي اليوم: “ما لنا لنا وما لكم هو لكم ولنا”؟
هناك خشية أن تكون طهران قد قرّرت بشدّة أن يكون لبنان متراساً في مرحلة انتقال السلطة في الولايات المتحدة الأميركية. فتحت عنوان “فوز ترامب يعني أنه لم يعد الشرق الأوسط إيرانياً بعد الآن”، كتبت وول ستريت في عددها يوم الجمعة الماضي، تقول: “أدّت أنباء فوز دونالد ترامب إلى انخفاض الريال، العملة الإيرانية، إلى أدنى مستوى له على الإطلاق هذا الأسبوع. لقد انتهى زمن بالنسبة للنظام الإيراني الذي حصل على أكثر من 40 مليار دولار من عائدات النفط الإضافية خلال سنوات بايدن بسبب عدم تطبيق العقوبات الأميركية. لكن الرشوة المتدحرجة لأميركا لم تشترِ شيئاً وأعطت الصين نفطاً رخيصاً”. أضافت الصحيفة الأميركية: “موجات الصدمة من الانتخابات الأميركية محسوسة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ولاحظ تقرير CNN يوم الأربعاء الفائت أنه من المتوقع أن يقود براين هوك الفريق الانتقالي لوزارة الخارجية. وكان هوك قاد أول حملة عقوبات “الضغط الأقصى” لإدارة ترامب ضد إيران، وكان يعيش تحت التهديدات الإيرانية على حياته. إنّ وجوده هو إشارة إلى أنّ أميركا تعني العمل مرة أخرى”.
وخلصت وول ستريت جورنال إلى القول: “عندما اعتبر السيد بايدن المنشآت النووية الإيرانية محظورة على الانتقام الإسرائيلي، لم يوافق السيد ترامب على ذلك. فهو قال في 4 تشرين الأول الماضي: “هذا هو الشيء الذي تريد ضربه، أليس كذلك؟ كان يجب أن يكون الجواب: ضرب النووي أولاً والقلق بشأن الباقي في وقت لاحق”.
ومن مرشد إيران إلى “مرشد” لبنان، كما يتصرّف بري حالياً على هذا الأساس بعد غياب نصرالله. فقد حاول برّي أن يتلقّف حبل خلاص لاح له في توقيع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب للرسالة التي بعث فيها قبل أيام من الانتخابات الأميركية إلى المغتربين اللبنانيين والتي تحدث عنها بري. وتضمنت الرسالة تعهداً خطياً بوقف الحرب في لبنان. لكن الرسالة التي تضمنت ما أشار إليه رئيس مجلس النواب، ورد فيها أيضا: “أريد أن أرى الشرق الأوسط يعود إلى السلام الحقيقي، سلام دائم، وسنحقق ذلك بالشكل الصحيح حتى لا يتكرر كل 5 أو 10 سنوات! أعدكم بذلك. سأحافظ على الشراكة المتساوية بين جميع الطوائف اللبنانية. أصدقاؤكم وعائلاتكم في لبنان يستحقون أن يعيشوا بسلام وازدهار ووئام مع جيرانهم…”
هل فات بري أنّ إسرائيل من بين “الجيران” الذين تحدّث عنهم ترامب؟
مرة أخرى: أليس من حق البطريرك الراعي أن يتدخّل في الشؤون الإيرانية ردًّا على تدخّل المرشد الإيراني في الشؤون اللبنانية؟
أليس هذا هو العدل الذي يجيب على هذا الاستئثار لـ “مرشد” لبنان في تقرير مصير الانتخابات الرئاسية في لبنان؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
تفاؤل بري وابتسامة لاريجاني | تفليسة “تفاهم” مار مخايل في عملية البترون | سلاح “الحزب”: من إيران وإلى إيران يعود |