لا سلاح في شمال الليطاني أيضاً
مشروع الحل المتداول اليوم، والذي يعمل آموس هوكشتاين على تسويقه، يرتكز إلى تنفيذ القرار 1701، ولكن بمندرجاته كلها. وبـ”المندرجات” تحديداً يكمن جوهر الحل. فهي تقضي بسيادة السلاح الشرعي وحده في كل لبنان، وانتهاء دور السلاح غير الشرعي في الداخل أيضاً لا في جنوب الليطاني فقط، وتوسيع نطاق عمل “اليونيفيل” براً وبحراً وجواً لمنع وصول أسلحة جديدة إليه
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
عندما كنتُ صبياً، كان والدي مولعاً بتربية الحساسين. يساعدها على بناء أعشاشها في أقفاص جميلة، ويعتني بتنمية فراخها حتى تكبر وتتعلم التغريد. ولأنني كنت أرغب في تحرير عصافيرنا السجينة، فتَحْتُ ذات يوم باب أحد الأقفاص خلسةً، وحاولتُ مساعدة عصفور على الفرار. لكنه لم يفعل. فأخرجتُه ووضعتُه على حافة الشرفة ليرى أن السماء كلها مُلك له. لكنه لم يفعل. وعندما لمستُ ذيله الصغير بأطراف أصابعي، خاف وقفز نحو الحديقة. ولأن المسكين لم يُتَح له يوماً أن يتعلم الطيران، سقط كالحجر على صخرة ومات.
هذا الدرس لا أنساه ما دمت حياً. واليوم، أستعيده عندما أراقب كيف يتعاطى أهل السلطة عندنا مع الحرب.
ففي الواقع، “دماغ” هؤلاء، القابع منذ سنوات طويلة في “قالب” جامد، بات شبيهاً بعصفور والدي. فلشدة ما وضع هؤلاء أنفسهم في القيود، لم يعودوا قادرين على التحرر، ولو جاءتهم عروض الحرية إلى أحضانهم. ولم يعودوا مؤهلين لتقبّل الأفكار السليمة ولو حضر الوسطاء الأميركيون والأصدقاء الأوروبيون والأشقاء العرب ينصحونهم بالأفكار الكفيلة بخلاص البلد.
مشروع الحل المتداول اليوم، والذي يعمل آموس هوكشتاين على تسويقه، يرتكز إلى تنفيذ القرار 1701، ولكن بمندرجاته كلها. وبـ”المندرجات” تحديداً يكمن جوهر الحل. فهي تقضي بسيادة السلاح الشرعي وحده في كل لبنان، وانتهاء دور السلاح غير الشرعي في الداخل أيضاً لا في جنوب الليطاني فقط، وتوسيع نطاق عمل “اليونيفيل” براً وبحراً وجواً لمنع وصول أسلحة جديدة إليه، مع احتمال الاستعانة بموسكور كضامن لتنفيذ هذه المهمة من الجانب السوري.
في الشكل يمكن تسمية مشروع هوكشتاين: “الـ1701 بلاس”. ولكن في العمق، هذا هو الـ 1701 بحذافيره نصاً وروحاً، ومن دون زيادة أو نقصان. فالقرار 1701 نفسه، عند ولادته في العام 2006، جاء مربوطاً بالقرارين 1559 و1680، لأن الذين صاغوه أدركوا استحالة تنفيذه من دون إلاستناد إليهما. فمجرد تنامي السلاح في شمال الليطاني سيؤدي حتماً إلى تمدده جنوباً. وفي أي حال، سيكون مشروعاً طرح السؤال: إذا كان “حزب الله” قد وافق على الابتعاد أكثر من 30 كيلومتراً عن الحدود، تاركاً المنطقة للجيش و”اليونيفيل”، فما حاجته هو إلى السلاح في شمال النهر، وما سيكون دور هذا السلاح إذا كانت المنطقة الحدودية قد باتت ممسوكة جيداً بيد الجيش، وبتغطية قوات دولية غير مسبوقة لجهة الدعم والصلاحيات التي تتمتع بها براً وبحراً وجواً؟
ما يقوله الرئيسان نبيه بري ونجيب ميقاتي وبقية طاقم السلطة الحالية هو الآتي: “نحن مستعدون لالتزام القرار 1701. نقطة وعلى السطر”. وهم يحرصون على عدم زيادة كلمة فوق هذا “الالتزام”، لأنهم واقعياً يريدون إقناع إسرائيل بأن تقبل بالحد الأدنى من التطمينات، أي بسحب السلاح والمقاتلين إلى شمال الليطاني، وبعد ذلك، ليس لأحد أن يتدخل في الوضع الذي سينشأ على بقية الأراضي اللبنانية، شمال الليطاني. فما تريده جماعة السلطة هو أن يتجاهل المجتمع الدولي تماماً وجود السلاح ومستودعاته وأنفاقه المحتملة في بقية الجنوب والبقاع والجبل والعاصمة والشمال، وأن يتغافل عن تدفق السلاح من خلال المعابر، براً وبحراً وجواً.
أي إن جماعة السلطة، وعلى رغم الكارثة التي أودى إليها الوضع السابق، ما زالوا يتمسكون بمفهومهم القديم للقرار 1701 و”الستاتيكو” الذي ساد منذ 2006، وفيه يمكن لـ”الحزب” أن يعود تدريجياً إلى السيطرة على بقعة الحدود، بغفلة من “اليونيفيل” وبتغاضٍ من أجهزة لبنان الرسمية، فيحفر الأنفاق وينشئ مستودعات السلاح جنوب الليطاني وشماله على حد سواء، فيما تبقى المعابر مفتوحة لتدفق الأسلحة والذخائر الجديدة بلا حساب.
ومن سخريات القدر أن طاقم السلطة يعمل للعودة إلى وضع يعرف جيداً أنه هو المسؤول عن اندلاع الحرب وتعميم الخراب. فإذا قُدّر لهذا الوضع أن يعود، فستقع الكارثة مجدداً. فـ”دماغ” جماعة السلطة عندنا ما زال أسيرَ القالبِ القديم. وأصحابُه عاجزون عن التفكير في الحلول السليمة. ولذلك، هم يناورون ويضيعون الوقت لعل الحظ يخدمهم. ولكنهم أبداً لن يطالبوا صراحةً ببسط سلطة الدولة على كامل ترابها وبواسطة جيشها وأجهزتها الرسمية دون سواها. ولا تدور في رؤوسهم، ولو في الحلم، فكرة الدولة التي تقوم على العدل والمساواة بين أبنائها بلا استثناء ولا استقواء.
هذا “الدماغ” الأسير هو اليوم أمام خيار حاسم: فإما أن يتاح تحريره فصبح مؤهلاً لابتداع الحلول السليمة لمصلحة البلد، وهذا أمر مشكوك فيه، وإما أن يعترف بعجزه فينأى عن المسؤولية لمصلحة عقول خلاقة تتحمل المسؤولية، جديرة بأن تتكلم باسم الدولة اللبنانية، وبأن تنقذها.
إن أسوأ ما يتعرض له لبنان، وسط كل هذا الدمار والقتل والتهجير، هو أن جماعة السلطة ما زالت تلجأ إلى الخداع وكسب الوقت. وسيكون مؤسفاً أن يراهن اللبنانيون لا على حكامهم، بل على حكام واشنطن وباريس والعرب، لإنقاذ البلد وفرض الحل الضامن لمنع اندلاع حرب جديدة، ولو بعد حين.
مواضيع مماثلة للكاتب:
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | استنفار قيادي درزي منعاً لأي مغامرة | ماذا سيبقى من “حزب الله”؟ |