لئلا يقع الجيش في الفخّ


خاص 5 كانون الأول, 2024

خطيئة السلطة السياسية أنها لا تزال تلعب بالنار، وبدم بارد. ولكن، لا الجيش يتحمل الالتباس، ولا الشعب اللبناني يتحمل التهرب من حقيقة أنّ الوقت قد حان لزوال كل سلاح خارج الدولة. وللتذكير أيضاً، لوحت حكومة نتنياهو قبل يومين بأنّ الرد على “الحزب”، في مرحلة لاحقة، لن يقتصر على “الحزب” وحده، بل سيشمل الدولة اللبنانية ككل!

كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:

لم يتعلم جماعة السلطة من الدرس ولم يغيّروا سلوكهم. إنهم يراهنون مجدداً على حلٍّ يأتي من مكانٍ ما وينقذ الوضع. وبذلك، تنطبق عليهم المقولة المنسوبة إلى آينشتاين: الأحمق هو ذاك الذي ينتظر تحقيق نتائج مختلفة في ظل معطيات لا تتبدل. وجماعة السلطة يرتكبون اليوم خطأ فادحاً بحق الجيش ودوره الوطني، بسبب سلوكهم الملتبس في التعاطي مع اتفاق وقف النار.

من منطلق احترامه للمؤسسات والتزامه حدود الأداء المهني الصرف، بديهي أن تكون حدود صلاحيات الجيش هي تنفيذ قرارات السلطة السياسية. ولذلك، تتحمل هذه السلطة مسؤولية أي خلل في قراراتها وتوجهاتها، كما يحصل اليوم في التعاطي مع اتفاق وقف النار.

للإيضاح، اضطر أركان السلطة إلى تبني صيغة ملتبسة لوقف النار، تتألف من نص وافق عليه لبنان، وإلى جانبه ورقة ضمانات جانبية جرى توقيعها بين إسرائيل والأميركيين. وقد تجاهل لبنان الرسمي هذه الورقة. لكن ما يدعو إلى السخرية المريرة، هو أنّ تجاهل الجانب اللبناني للورقة لا يعني عدم وجودها، خصوصاً أنّ الأميركيين هم الذين يترأسون اللجنة المكلفة تنفيذ الاتفاق. وقد ظهر حتى اليوم، أنّ الإسرائيليين يتصرفون وكأنهم يمتلكون مشروعية تنفيذ الاتفاق بالقوة النارية، بناء على هذه الضمانات “الجانبية”، إذ واصلوا الاغتيالات والقصف والهدم ومنعوا التجوال في بقعة واسعة من الجنوب. وقيل إنهم كانوا سيضربون في العاصمة بيروت، قبل يومين، رداً على قذيفتين (لا غير) أطلقهما “الحزب” على مزارع شبعا، لولا النصيحة الأميركية بالتريث.

وأما “الحزب” الذي يؤكد صراحة أنه ليس معنياً بأي ورقة جانبية، فهو لا يعلن استعداده لإنهاء وجوده المسلح، لا من جنوب الليطاني ولا طبعاً من شماله، ويتجاهل أنّ الاتفاق ينص على “نزع سلاح” disarmament أي قوة غير شرعية من لبنان كله. ولذلك، لم يقم بأي خطوة في هذا الاتجاه حتى الآن.

إنه التصادم: إسرائيل تحتفظ لنفسها بالحق في تنفيذ الاتفاق بقوة النار، وعلى اتساع الأراضي اللبنانية. وفي المقابل، يحتفظ “الحزب” بمنظومته العسكرية وترسانته على اتساع الأراضي اللبنانية. وهذا التصادم يعني حتماً استئناف الحرب في أي لحظة. ولأنّ الجيش هو الأداة العملانية المكلفة تنفيذ الاتفاق، فإنه سيكون في المأزق.

سيتجنب الجيش دخول أي موقع عسكري يخص “حزب الله”. لكن لجنة المراقبة قد تطلب من الجيش أن يفعل ذلك، بناء على شكاوى إسرائيلية. فإذا تجاوب مع الطلب، قد يصطدم بـ”الحزب”. وإذا لم يتجاوب، فستعتبر إسرائيل أن لها الحق في استهداف المواقع المقصودة بالنار، وبتغطية أميركية، كما يحصل اليوم.

في الحالين، هذا الواقع سيصيب الجيش بالإرباك، كما سيهدد باستمرار الحرب، علماً أن إسرائيل تصر على وصف اتفاق وقف النار بأنه “مجرد هدنة” مستقطعة في حرب مستمرة.

خطيئة السلطة السياسية أنها لا تزال تلعب بالنار، وبدم بارد. ولكن، لا الجيش يتحمل الالتباس، ولا الشعب اللبناني يتحمل التهرب من حقيقة أن الوقت قد حان لزوال كل سلاح خارج الدولة. وللتذكير أيضاً، لوّحت حكومة نتنياهو قبل يومين بأن الردّ على “حزب الله”، في مرحلة لاحقة، لن يقتصر على “الحزب” وحده، بل سيشمل الدولة اللبنانية ككل.

قد يقول البعض: لا يجوز تحميل أركان السلطة فوق ما يستطيعون تحمله. فإذا كان البلد كله خاضعاً لنفوذ “الحزب”، فما الذي يستطيع القيام به أركان السلطة؟ وربما هذا الكلام يمنح أركان السلطة بعض التبريرات لما يفعلونه. لكن ما لا يمكن تبريره هو أن السلطة تتجاهل مدى الضرر الذي قد يتعرض له الجيش في هذه المغامرة. ووفق بعض الخبراء، كان من الأسلم اعتماد آلية تنفيذية للاتفاق أكثر وضوحاً وحزماً، ومن شأنها وضع الجميع أمام مسؤولياتهم. وهذه الآلية سهلة، ولم يفت القطار على إمكان اعتمادها.

هذه الآلية تقضي بأن تقوم السلطة السياسية- التي يتمثل فيها “حزب الله” بشكل قوي وفاعل- بدعوة “الحزب” إلى تنفيذ مندرجات الاتفاق كلها بشكل تلقائي وطوعي ما دام قد أعلن الموافقة عليه فعلاً، على أن يقوم بإبلاغها بعد ذلك بأنه أنهى مهمته. وحينذاك، تتخذ هذه السلطة قرارها العملاني بنشر الجيش وأداء المهمات التي تنتظره، وفق ما نص عليه الاتفاق.

أهمية هذه الصيغة أنها تحدد حقيقة موقف كل طرف، بالأفعال لا بالأقوال، وتمنع أي تصادم يرغب الجيش و”حزب الله” في تجنبه، وتمنع إسرائيل من استثمار أي ثغرة لاستئناف الحرب على نطاق واسع، كما تسهل عمل لجنة المراقبة.

قد يسأل البعض: أليس خيالياً الطلب من “حزب الله” أن ينسحب بملء إرادته من جنوب الليطاني، وأن يلتزم مندرجات الاتفاق كلها تلقائياً؟

والجواب هو: “الحزب” أعلن التزامه بالاتفاق، وعليه أن يبرهن جدية هذا الالتزام أمام لجنة المراقبة، وقبل أن يقوم الجيش بأي خطوة. وأما إذا لم يكن “الحزب” مستعداً لترجمة التزامه ميدانياً، فالأحرى أن تحل هذه المشكلة بمفاوضات جديدة وقبل الدفع بالجيش إلى الميدان. فلا مصلحة للبنان في حدوث أي تصادم بين الدولة و”الحزب”، لأنه سيؤدي إلى التأثير سلباً على المؤسسة العسكرية ودورها الوطني.

ولذلك، هذه المرة، أركان السلطة مطالَبون بأن يبدلوا نهج المماطلة والتمييع، وبأن يخرجوا من حالات الإنكار والمماطلة والتمييع. فالشرق الأوسط كله يشهد انقلابات وتفجيرات ستقلب غالبية كياناته رأساً على عقب. ولم يعد لبنان يتحمل المزيد من المناورات، لأنّ العواقب المحتملة أكبر بكثير من قدرة البلد على التحمل.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us