من الناقورة إلى الجولان: كمّاشة نتنياهو
تجارب إسرائيل في الاحتلال والضم تؤشر إلى أنها لا تصبر سنوات كثيرة، فبين احتلالها للجولان السوري في العام 1967 واتخاذها القرار بضمه في العام 1981، لم تنتظر سوى 15 عاماً. واليوم، هي تستعد لعمليات ابتلاع جديدة، ستبدأ بغزة والضفة الغربية، لكنها على الأرجح لن توفر الأردن وسوريا ولبنان، فـ”الشرق الأوسط الجديد” الموعود دخل في مخاضه العسير
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
من ينظر إلى الخريطة السورية يجد أن الخط الذي تقدَّم إليه الإسرائيليون أخيراً، بين الجولان وريف دمشق، يشكل امتداداً أفقياً لخط الليطاني الذي ينتهي بالبحر عند القاسمية. ولهذا الواقع دلالات عميقة في مجريات الأحداث بين سوريا ولبنان.
فيما كان نظام بشار الأسد يتهاوى في دمشق، تحركت إسرائيل سريعاً على خطين: الأول هو تدمير كل المقومات العسكرية الجوية والبرية والبحرية السورية (كانت متواضعة ومترهلة في أي حال)، وتدمير مراكز الأبحاث ومصانع الكيماويات التي يملكها الأسد أو إيران و”حزب الله”. وتزامناً جرت تصفيات غامضة لعلماء سوريين في الفيزياء والكيمياء، على أيدي مجهولين.
وأما الخط الثاني الذي تحركت فيه إسرائيل فهو استفادتها من البلبلة السائدة للتمدد جنوباً، إذ سارع الجيش الإسرائيلي إلى الاستيلاء على الموقع السوري الاستراتيجي في جبل الشيخ، وتمدد خارج “حدود” هضبة الجولان وتجاوز المنطقة العازلة التي يبلغ طولها 75 كيلومتراً ويبدأ عرضها شمالاً بـ10 كيلومترات ويصبح في اقصى الجنوب بحدود الـ200 متر. ثم دخل هذا الجيش إلى ريف دمشق. ووفق تقارير عدة، وصل (حتى الآن) إلى مسافة 25 كيلومتراً من العاصمة.
ولكن، وتجنباً للاعتراضات الدولية، أعلن بنيامين نتنياهو أن هذا التقدّم ظرفي ويهدف إلى حماية “الحدود” من أي خطر محتمل، وتعهد بالانسحاب من المنطقة لاحقاً لأن “لا أطماع لإسرائيل في الأرض السورية”. لكن نتنياهو زرع لغماً في هذا التعهد عندما قال إن الجولان “جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل، وسيبقى كذلك إلى الأبد”.
ويكمن اللغم في السؤال: بالنسبة إلى إسرائيل، هل تبدأ حدود الجولان وتنتهي في المنطقة التي ضمتها سابقاً أم إنها تشمل المنطقة العازلة وأجزاء أخرى خارجها؟ وأين تقع النقاط الحيوية التي تريد إسرائيل الاحتفاظ بها خارج الهضبة من أجل تأمين الحماية لها، وضمن أي مسافة؟ وهنا يجدر التذكير بأن المسافة بين الجولان ودمشق لا تتجاوز الـ 57 كيلومتراً، أي إنها مساوية مثلاً للمسافة بين بيروت والبترون. وحتى اليوم، ابتلع الإسرائيليون قرابة نصف هذه المسافة، فباتوا على مشارف العاصمة. وهم لن يسمحوا لأحد في سوريا بالاقتراب من مواقعهم، ولو كان الجيش السوري الرسمي. واستناداً إلى تجربة احتلال الجولان وضمه، إن الوضع الذي يدعي الإسرائيليون بأنه “موقت” لا شيء يمنع من دوامه إلى ما لا نهاية.
بتوسيع تمددها العسكري إلى خارج هضبة الجولان، باتت إسرائيل مرتاحة في تشكيل “كماشة” تسيطر تماماً على المنطقة التي تحتلها اليوم في جنوب لبنان. وفيما تنفيذ اتفاق الـ60 يوماً يتباطأ، وكأنه ينتظر تبلور المشهد السوري، لا شيء يوحي بأن الإسرائيليين يفكرون جدياً في الانسحاب التام من جنوب الليطاني أو وقف عملياتهم نهائياً. وعلى العكس، إن نجاحهم في توسيع منطقة نفوذهم في الجولان وريف دمشق سيسمح لهم بالتعاطي مع تلك المنطقتين السورية واللبنانية كبقعة عمل موحدة، بحيث يدخلون من الحدود السورية الشرقية إلى جنوب لبنان، ويدخلون من الحدود اللبنانية الغربية إلى منطقة الجولان وريف دمشق. وفي ظل هذه السيطرة، سيزداد تمسكهم بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، باعتبارها جزءاً من الجولان السوري أو من الجنوب اللبناني، لا فرق، وسواء اعترفت السلطة السورية الجديدة بلبنانية المزارع أو أصرت على اعتبارها سورية.
ما يدعو إلى السخرية المرة هو أن إسرائيل نجحت اليوم في تكريس “وحدة المسار والمصير” بين لبنان وسوريا، وجعلت البلدين معاً أمام تحدي مواجهة سيطرتها شبه المطلقة عسكرياً وسياسياً، فيما سقط نظام الأسد الذي أمضى عشرات السنين يجرب فرض هذه المقولة بالقوة حيناً وبالحيلة أحياناً على لبنان، سعياً إلى تكريس هيمنته، بجيشه وبأدواته اللبنانية. واليوم، ينجح الإسرائيليون بفرض هذه الوحدة بقوة النار على البلدين معاً، بعد إسقاط الأسد ومعه المحور بكامله. فالحرب هنا باتت تعني الحرب هناك، والتسوية هنا تستدعي التسوية هناك أيضاً.
تبدو إسرائيل اليوم ممسكة تماماً بالمبادرة، على كل الجبهات. وهذا ما يفتح شهيتها أكثر من أي يوم مضى لتوسيع حدودها، مستفيدة من “وعد” دونالد ترامب الآتي إلى البيت الأبيض الذي كرره في الحملة الانتخابية الأخيرة: “أرض إسرائيل ضيقة عليها، وسنعمل لتوسيعها”. وبالفعل أمام الرجل 4 سنوات على الأقل لإثبات أنه سيفي بوعده. وفي أي حال، تجارب إسرائيل في الاحتلال والضم تؤشر إلى أنها لا تصبر سنوات كثيرة. فبين احتلالها للجولان السوري في العام 1967 واتخاذها القرار بضمه في العام 1981، لم تنتظر سوى 15 عاماً. واليوم، هي تستعد لعمليات ابتلاع جديدة، ستبدأ بغزة والضفة الغربية، لكنها على الأرجح لن توفر الأردن وسوريا ولبنان. فـ”الشرق الأوسط الجديد” الموعود دخل في مخاضه العسير.
مواضيع مماثلة للكاتب:
أخطاء قاتلة على طريق الشام | لئلا يقع الجيش في الفخّ | هل سيُخلي “حزب الله” فعلاً جنوب الليطاني؟ |