أخطاء قاتلة على طريق الشام


خاص 19 كانون الأول, 2024

ليس في العالم كله، بدُوَلِه الناجحة والفاشلة، نموذج أسوأ من لبنان، حيث السفراء والقناصل والمبعوثون العرب والأجانب يتحكمون بالسياسات الداخلية والخارجية، فإذا لم يتدخلوا يتصارع اللبنانيون ويفشلون حتى في التحاور أو انتخاب رئيسهم أو اختيار رئيس حكومتهم أو إجراء انتخابات نيابية

كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:

ثمة مخاوف من أن يكون العديد من أركان السياسة في لبنان قد بدأوا “يمشّطون ذقونهم” للاستثمار السياسي في سوريا الجديدة كما اعتادوا الاستثمار في سوريا السابقة. وإذا حصل ذلك فعلاً، فالكوارث ستتكرر حتماً، سواء كانت السلطة السورية الجديدة هي من النوع الذي يطمع بوضع لبنان “في جيبه” كما كان الأسد، أو من النوع الذي يحترم قواعد الجوار بين البلدين اللذين يتمتعان بالسيادة الكاملة. وفي أي حال، لا بد من فترة اختبارية، قد تطول، لمراقبة سلوك هذه السلطة ومدى التزامها القوانين في داخل سوريا وخارجها.
في زمن سوريا السابقة، غالبية سياسيي لبنان ومسؤوليه اعتادوا التسابق لنيل رضا “الباب العالي” في دمشق. وكانوا يستقوون به على خصومهم. وهذا السلوك، في أي بلد، هو الوصفة المثالية للوصاية أو الاحتلال. ولذلك، يصاب المواطنون اللبنانيين العاديون اليوم بـ”نقزة” عندما يسمعون أنّ زعيماً سياسياً قرر الذهاب إلى الشام ومحاورة قيادتها الجديدة. وسواء كان هذا الحوار إيجابياً أو سلبياً بمنطلقاته، فإنه يوقظ فيهم صورة توريط سوريا بالشأن اللبناني ثم صورة تورط بعض اللبنانيين في الشأن السوري، وكلاهما أوقعا كوارث مريعة في البلدين.
قد تكون هناك زيارات بروتوكولية للبعض، ويمكن تبريرها بتقديم التهاني لا أكثر. ولكن، هناك قوى سياسية وغير سياسية عدة بدأت التخطيط باكراً لعقد لقاءات مع السلطة الجديدة في سوريا بهدف التفاهم معها وضمان المصالح. وفي المقابل، أثار الشيخ نعيم قاسم مسألة أخرى عندما قال إنّ طريق الإمدادات إلى “حزب الله” قد يستعاد في ظرف معين. وهذا الموقف يؤشر إلى أنّ “الحزب” ربما يطمح إلى استخدام هذه الأراضي السورية والحدود إذا استطاع ذات يوم. ومع أنّ هذا الأمر بات مستحيلاً، فإنّ مجرد التلويح به علانية يثير إشكالية لدى السلطة الجديدة في سوريا، باعتباره تفكيراً بانتهاك السيادة السورية. وبالفعل، لا تسمح القوانين الدولية إلا بنقل السلاح الرسمي من دولة إلى أخرى، ووفق اتفاقات معينة. كما تسجل السلطة السورية الحالية على “الحزب” أنه كان يقاتلها إلى جانب الأسد في الداخل السوري، على مدى سنوات. ويُخشى أن يستند حكام دمشق الجدد إلى كلام قاسم ليبرروا اتخاذهم تدابير مضادة تستهدف لبنان.
في الموازاة، يبدو أن الكثير من حلفاء “الحزب” وخصومه، الذين تنعم العديد منهم بالوصاية السورية، فتعاونوا معها “براغماتياً” وحققوا مكاسب ضخمة مختلفة الأنواع، يستعدون اليوم لسلوك طريق بيروت- دمشق، و”التطبيع” مع الحكم الجديد. وهذه الظاهرة لا تؤشر فقط إلى وجود خلل بنيوي تاريخي في تعاطي العديد من سياسي لبنان وحكامه مع “ولاة دمشق”، بمعزل عن طبيعة النظام فيها، بل تبرز عوارض مرض قاتل ينهش الجسم اللبناني نفسه.
هل سمع أحد أنّ هناك سياسيين وزعماء ووجهاء من الدول العربية الأخرى المجاورة لسوريا، كالعراق والأردن، أو السلطة الفلسطينية، قد بدأوا بتدبير الزيارات إلى دمشق لترتيب علاقاتهم مع قيادتها الجديدة؟ طبعاً لا. فالحكومات المركزية هي الأقنية الوحيدة التي يجب أن تتولى هذه المهمة السيادية الحساسة، أي الاتصال بالحكومة السورية الجديدة. وعلى هذه الحكومة نفسها أن تتجنب استعادة الدور الذي اضطلع به نظام الأسد وتنأى بنفسها عن فتح لقاءات جانبية مع لبنانيين. وفي الخلاصة،
إنّ مبادرة بعض السياسيين والزعماء والوجهاء اللبنانيين إلى ترتيب علاقاتهم “الخاصة” مع الحكم الجديد في سوريا يعني أنّ في لبنان دولاً عدة لا دولة واحدة، وأن هناك رؤوساً عدة بمصالح مختلفة، خصوصاً أنّ الدولة المركزية منهارة ومؤسساتها تعاني الفراغ، بدءاً بالرمز الأول للسلطة الموحدة، أي رئاسة الجمهورية.
ليس في العالم كله، بدُوَلِه الناجحة والفاشلة، نموذج أسوأ من لبنان، حيث السفراء والقناصل والمبعوثون العرب والأجانب يتحكمون بالسياسات الداخلية والخارجية، فإذا لم يتدخلوا يتصارع اللبنانيون ويفشلون حتى في التحاور أو انتخاب رئيسهم أو اختيار رئيس حكومتهم أو إجراء انتخابات نيابية. وبذلك، يظهر اللبنانيون “تحت سن الرشد”، كما قال الرئيس الياس الهراوي، قبل 3 عقود.
وليس هناك في العالم نموذج لسياسيين وزعماء “يفتح كل منهم على حسابه” علاقات مع قادة الدول وحكوماتها، ويبرم معها التفاهمات، من أجل حفظ الرأس والمصالح أو الاستقواء على الخصوم في الداخل، من دون المرور بالدولة المركزية ومراعاة مصالحها الجوهرية. هذا الواقع هو الذي سهّل على الفلسطينيين والسوريين والإيرانيين والإسرائيليين أن يفرضوا الوصايات أو الاحتلالات عبر مراحل من تاريخ الاستقلال اللبناني الممزق والحزين. وعلى اللبنانيين ألا يرموا مسؤولية الوصاية السورية على نظام الأسد وحده. فصحيح أنه معروف بطموحه القديم والقاسي إلى وضع اليد على لبنان، لكن العديد من هؤلاء السياسيين ساعده على خلق الظروف والذرائع التي تسمح له بالاحتلال والوصاية على لبنان. وكذلك، لا داعي للاستفاضة في شرح الأطماع الإسرائيلية التاريخية، لكن فريقاً من اللبنانيين منح نتنياهو، وبإصرار منه، ظروفاً وذرائع كي يجرؤ على إطلاق ماكينة التدمير والتهجير والاحتلال وممارسة الوصاية العسكرية والأمنية المستمرة، من الجنوب إلى العاصمة فسائر المناطق. وهذه الوصاية مستمرة، وتعبر عنها الطلعات الجوية التي لا تتوقف ليلاً أو نهاراً.
لذلك، هذه لحظة لبنانية تاريخية. فإما أن يحطّم اللبنانيون كل أصنام الماضي، في الداخل والخارج، ليولدوا من جديد، وإما أن يهبطوا سحيقاً في الهاوية التي لا قعر لها.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us