لبنان وسقوط النظام السوري: ما القادم؟
لعقود، كان النظام السوري يتمتع بنفوذ كبير في الداخل اللبناني، ومع انهياره، تغيّرت موازين القوى وبدأت التحالفات السياسية بالتبدّل، مما فتح الباب لتحديات جديدة على الصعيدين الأمني والاقتصادي
كتب جوني فتوحي لـ”هنا لبنان”:
شكّل سقوط النظام السوري حدثًا مفصليًا في المنطقة، خاصة بالنسبة للبنان الذي تجمعه بسوريا علاقات سياسية وجغرافية معقدة. لعقود، كان النظام السوري يتمتع بنفوذ كبير في الداخل اللبناني، ومع انهياره، تغيّرت موازين القوى وبدأت التحالفات السياسية بالتبدّل، مما فتح الباب لتحديات جديدة على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
هذا التحوّل أثار تساؤلات حول مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين، وقدرة لبنان على التعامل مع تداعيات الصراع السوري، سواء على مستوى اللاجئين أو الأمن الداخلي.
خوري: من الضروري إعادة النظر في تشكيل المجلس الأعلى اللبناني-السوري
وفي هذا السياق، أشار الأستاذ في العلاقات الدولية الدكتور رئيف خوري لـ”هنا لبنان” إلى أنه: “من الطبيعي أن تسقط مع النظام السابق القوى التي كانت تدعمه في لبنان، والمعروفة تحت اسم “محور الممانعة” أو “جبهة المقاومة” وبالتالي لم تعد هذه الجبهة مكوّنة من التشكيلة نفسها التي عرفناها سابقًا، والتي كانت تُدار من دمشق أو من طهران، أو بوساطة “حزب الله” اللبناني. هذا التحالف السابق قد انتهى عملياً، مع التأكيد على أن بعض الأحزاب الأساسية التي شكّلت الركيزة الجوهرية لهذا التحالف لا تزال قائمة حتى الآن ولا يزال الثنائي الشيعي، ولا سيما حزب الله، يمارس عمله السياسي.”
وأضاف: “مع سقوط النظام السوري، بدأت سياسات القوى المرتبطة به تتغير، حيث لم يعد لديها دعم كافٍ على المستويين اللبناني والإقليمي، ولا حتى من إيران. ربما تحتاج هذه القوى إلى بعض الوقت لإعادة تنظيم صفوفها، ولكن السمة الأساسية في الوقت الحالي هي الارتباك والقلق، مع غياب الوضوح بشأن توجهها السياسي، سواء على المستوى الإيراني أو في سياق التحالفات الإقليمية، ولا بد من الإشارة إلى أن فقدان الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، كان له أثر كبير على هذا التحالف، إذ كان يتمتع بقدرة على إدارة هذا التحالف وبرمجة سياساته وقيادته. أما الآن، بعد نتائج حرب غزة ونتائج حرب لبنان، ومؤخراً سقوط النظام السوري، بات هذا التحالف في حالة تفكك أو ارتباك، حيث أصبح بحاجة إلى قيادة جديدة، أو رؤية سياسية واضحة، أو حتى منسق قادر على جمع أطرافه معاً. فقدت هذه القوى ما كان يوفره النظام السوري من دعم وتنظيم، وهو أمر لم يعد موجودًا في السياق الراهن.”
ولفت خوري إلى أن: “العلاقات بين الدولتين أصبحت شبه مفتوحة، ولكن هناك بعض القيود المفروضة على القادمين من سوريا. ومع ذلك، من المتوقع أن تتحسن العلاقات مع الوقت. المجلس الأعلى السوري-اللبناني، الذي كان قد تشكل في عهد النظام السوري السابق، لم يكن يعمل وفقًا للقانون الذي ينظم أعماله، بل كان مرتبطًا بشكل كبير بالنظام السوري، مما أثر على أدائه ورئيس المجلس الأعلى لم يقم بخطوات تعزز السيادة اللبنانية أو تؤسس لعلاقة ندية ومتوازنة بين لبنان وسوريا. ونتيجة لذلك، فقد هذا المجلس دوره الحقيقي ولم يعد يقوم بالمهام التي كان من المفترض أن يضطلع بها، وفقًا لما كان مخططًا له.”
وقال:”من الضروري إعادة النظر في تشكيل المجلس الأعلى اللبناني-السوري، وكذلك في طبيعة التمثيل الدبلوماسي بين لبنان وسوريا، خاصة مع وجود سفارتين: سفارة لبنان في دمشق وسفارة سوريا في بيروت. هذه الهيئة تُعتبر أساسية لإعادة تفعيل العلاقات بين البلدين وتشكيل حكومة جديدة في سوريا بعد الأزمة، وكذلك تشكيل حكومة في لبنان بعد انتخاب رئيس للجمهورية، سيُسهمان في إعادة الحرارة إلى العلاقات اللبنانية-السورية. هذه العلاقات ينبغي أن تُبنى على أسس الندية، حسن الجوار، واحترام سيادة كل بلد. لبنان يتطلع إلى التعامل مع النظام الجديد في سوريا بشكل أعمق، حيث تُعتبر سوريا عمقًا عربيًا استراتيجيًا للبنان، وهي بوابة للدخول إلى الساحة العربية الأوسع. هذا التعاون ضروري لتحقيق التوازن وتعزيز العلاقات المشتركة بين البلدين.”
وعن إمكانية زعزعة الأمن اللبناني إبان الأحداث الجارية في سوريا، أشار الخوري إلى أن:” كل ما ظهر حتى اليوم لا يشير إلى أن الحكم الجديد في سوريا يتجه نحو الاقتصاص أو الانتقام من الأقليات أو المكونات السورية المختلفة، سواء كانوا علويين، أو أكرادًا، أو دروزًا، أو مسيحيين، أو أرمن. بل على العكس، المؤشرات الحالية توحي بتوجه نحو التعامل الإنساني القائم على أساس المواطنة. مع ذلك، هناك خوف مشروع لدى بعض القوى، بالرغم من وجود أطراف تضخّم هذا الخوف وتروج لفكرة أن النظام الجديد في سوريا سيقوم بأعمال انتقامية. حتى الآن، لا يمكن الحكم على النظام الجديد من هذا المنطلق، لأن ما يظهر حتى اللحظة يُظهر احترامًا لجميع المكونات، وتركيزًا على تعزيز المواطنة في سوريا، وكذلك احترام دول الجوار. النظام الجديد أرسل رسائل واضحة إلى لبنان، تؤكد عدم وجود أي نية للدخول في معركة مع الشعب اللبناني. كما أرسل رسائل مماثلة إلى العراق وإيران، مشيرًا إلى أنه لا يسعى للانتقام من إيران، على الرغم من انقطاع “الكوريدور” الذي كان يُستخدم لتمرير السلاح والذخائر والأموال من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان.”
العريضي: لقد حان الوقت لأن يخرج لبنان من دائرة التدخلات الخارجية
من جانبه، أشار الصحافي والكاتب السياسي وجدي العريضي:” لا شك أن سقوط نظام بشار الأسد سيكون له تداعيات كبيرة على الساحة اللبنانية، نظراً للترابط الجغرافي والسياسي بين البلدين. وصول فريق سياسي من محور ما يُعرف بـ”الممانعة”، المتحالف استراتيجيًا مع النظام السوري، إلى مرحلة ما بعد انهيار النظام السابق يعني أن هذا الفريق سيحاول الانخراط في الحياة السياسية بطريقة مختلفة عما كانت عليه الأمور في المراحل السابقة.
السؤال المطروح هنا هو: من سيدعم هذا الفريق؟ وإلى أي جهة سينتمي على المستويين السياسي والانتخابي؟ وكيف سيتعامل مع الاستحقاقات المقبلة؟ من الواضح أن محور “الممانعة” قد تلقى أضرارًا جسيمة، ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل خارطة التحالفات السياسية الداخلية.هذه التحولات ستنعكس بوضوح في الاستحقاقات المقبلة، سواء الرئاسية، النيابية، أو البلدية، ما يشير إلى “خضّة” أو إعادة ترتيب كبيرة للتحالفات السياسية بعد سقوط الأسد، تختلف تمامًا عما كانت عليه قبله.إضافة إلى ذلك، فإن اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر اللهسيؤدي إلى مرحلة جديدة على الساحة اللبنانية، ما قبل هذا الاغتيال لن يكون كما بعده، وسيضيف تعقيدات جديدة إلى المشهد السياسي اللبناني. باختصار، سقوط النظام السوري سيُدخل لبنان في مرحلة مختلفة تمامًا، خصوصًا فيما يتعلق بتشكيل التحالفات السياسية، وتعامل القوى الداخلية مع التطورات الإقليمية.”
وأضاف:” يجب على لبنان أن ينتخب رئيسًا للجمهورية لإعادة انتظام عمل المؤسسات الدستورية وتشكيل حكومة قادرة على تحقيق سيادة لبنان واستقلاله. لقد خرجنا من عهد الوصاية السورية التي شهدت فسادًا وقمعًا وسطوة على المؤسسات اللبنانية، كما أننا بحاجة إلى إنهاء تأثير الوصاية الإيرانية المتمثلة بحزب الله، الذي يواصل تعطيل الحياة السياسية في البلاد.
بسبب الترابط الجغرافي والسياسي بين لبنان وسوريا، يجب أن تُلغى الاتفاقيات التي كرّست التبعية، مثل المجلس الأعلى اللبناني السوري ومعاهدة “الأخوة والتعاون”. على مجلس النواب أن يعقد جلسة لإلغاء هذه المعاهدات التي فُرضت على لبنان بفائض القوة والنفوذ السوري خلال حقبة الوصاية.
لبنان بحاجة إلى نظام سياسي جديد يحترم سيادته واستقلاله، بعيدًا عن أي تبعية لسوريا أو غيرها. إن سقوط النظام السوري قد يفتح صفحة جديدة للبنان، لكن مسؤوليتنا تقتضي انتخاب رئيس لبناني سيادي، وطني، وعربي، قادر على معالجة الأوضاع الحالية، واستعادة الثقة الدولية والعربية بلبنان، خصوصًا من الدول الخليجية.”
ورأى العريضي أنه:” لقد حان الوقت لأن يخرج لبنان من دائرة التدخلات الخارجية التي أثقلت كاهله لعقود طويلة، سواء من السوريين، الإسرائيليين، الأمريكيين، الفرنسيين، أو غيرهم. وتحديدًا التدخل السوري الذي سيطر على المشهد السياسي اللبناني لأكثر من ثلاثين عامًا، وتلاه النفوذ الإيراني المتمثل بحزب الله.نحن اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة علاقتنا مع سوريا لتصبح علاقة دولة بدولة، قائمة على الاحترام المتبادل وفق القواعد الدبلوماسية المتبعة بين الدول. يجب إنهاء نموذج العلاقات القديمة التي اعتمدت على الهيمنة، مثل المجلس الأعلى اللبناني السوري، الذي كان أداة سياسية أكثر من كونه منصة تعاون حقيقية.
علاوة على ذلك، يجب أن نعيد ترتيب علاقات لبنان مع جميع الدول، بدءًا بسوريا، على أسس واضحة وشفافة. كما يجب أن يتحرر لبنان من الأيديولوجيات الخارجية التي فرضت نفسها من خلال أحزاب ذات ولاءات عقائدية، مثل ارتباط حزب الله بإيران، أو تحالفات بعض القوى السياسية مع النظام السوري. المطلوب الآن هو وقف هذه التدخلات الخارجية، والعمل على بناء نظام سياسي لبناني مستقل يحترم سيادة البلاد ويضمن استقلالها الكامل عن أي تأثير خارجي. لبنان يحتاج إلى قيادة حكيمة قادرة على توجيه هذه المرحلة التاريخية نحو بناء دولة حديثة ومتوازنة. “
وقال:” من الطبيعي أن تكون العلاقات بين لبنان وسوريا ممتازة وجيدة، تمامًا كما هي الحال بين كل الدول المجاورة. يجب أن تقوم هذه العلاقات على أسس دبلوماسية متينة، تشمل الثقة المتبادلة، احترام الحدود، وتبادل المصالح. فتح الحدود بين البلدين هو أمر طبيعي، على أن يتم ذلك وفق آليات واضحة تضبط الوضع الأمني وتمنع تسلل أي جهات أصولية أو إرهابية.
التعاون الأمني بين الدولتين أساسي لتحقيق ذلك، وأعتقد أن هذه الجهود ممكنة التنفيذ، خصوصًا في ظل الدور الكبير الذي تقوم به الأجهزة الأمنية اللبنانية، مثل الجيش اللبناني والأمن العام.من الجدير بالذكر أن مدير عام الأمن العام، اللواء إلياس البيسري، يبذل جهودًا كبيرة في ضبط الحدود ومنع دخول أي شخص لا يحمل إقامة شرعية، مع تسهيل مرور اللبنانيين بشكل آمن .نحن أمام مرحلة جديدة تتطلب تطوير وتوسيع العلاقات بين لبنان وسوريا، لأن ذلك يحمل فوائد متعددة، اجتماعية واقتصادية وتجارية (ترانزيت)، بشرط الالتزام بضوابط أمنية وجمركية واضحة تحفظ أمن البلدين.”
وعن قضية عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، علق العريضي قائلاً:” من الطبيعي أن الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد كان يرفض عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، خاصة وأن العديد منهم كان لديهم مذكرات توقيف وكانوا يخشون من القتل والاغتيالات، وهو ما شاهدناه بوضوح بعد سقوط النظام من خلال الانتهاكات والإجرام الذي مارسه النظام. هذه الوحشية كانت مستمرة منذ عهد حافظ الأسد وصولًا إلى نجله بشار الأسد.
لكن موضوع عودة اللاجئين سيتحرك بشكل إيجابي، ويجب أن يكون هناك التنسيق بين الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، خصوصًا الأمن العام اللبناني الذي يقوم بدوره كبير في هذا الصدد. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإنسانية ستلعب دورًا مهمًا في تسهيل عودتهم.ومن جانبها، أطلقت القيادة السورية الجديدة دعوة لعودة اللاجئين إلى ديارهم، وبالأخص من لبنان. هذا يعني أن العودة أصبحت آمنة أكثر من أي وقت مضى، وأن الظروف باتت مهيأة لإتمام هذه العودة بشكل منظم وآمن.”
وأشار العريضي إلى أن :” لبنان اليوم أمام فرصة تاريخية للحفاظ على سيادته وأرضه واستقلاله، وتجنب انتقال النزاع إلى أراضيه. تحقيق ذلك يتطلب تعزيز الوحدة الداخلية وتطوير الجبهة الوطنية، بالإضافة إلى دعم الأجهزة الأمنية مثل الجيش اللبناني، الأمن العام، قوى الأمن الداخلي، والأمن الدولة، وغيرها من المؤسسات الأمنية. لكن من المهم أن يكون هناك غطاء سياسي لهذه الجهود، حيث تلتزم بعض الأحزاب بالمحافظة على هذا المسار الوطني، بعيدًا عن أي تبعية خارجية. نحن أمام فرصة لم تتاح لنا من قبل، بعد الخروج من كل أشكال الوصاية.
اليوم، علينا أن ننتخب رئيسًا للجمهورية يملك القدرة على تطوير الأجهزة الأمنية ودعمها، والوقوف إلى جانبها في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها لبنان.
الجيش اللبناني نجح في محاربة الإرهاب في الجرود، بينما يقوم الأمن العام بضبط الحدود بشكل متقدم جدًا، وقوى الأمن الداخلي حافظت على الاستقرار الأمني رغم الصعوبات التي مرت بها البلاد. هذه الإنجازات تظهر أن الظروف مهيئة تمامًا من أجل تجنب انتقال النزاعات الإقليمية، خصوصًا من سوريا.علينا أن نتجنب أن يكون لبنان ساحة لصراعات المحاور، وأن نعمل على جعل لبنان دولة ذات سيادة، بعيدًا عن التدخلات الإقليمية والدولية. هذه هي الفرصة الأفضل للبنان ليحمي نفسه ويضمن مستقبله المستقل. أعتقد أن الأمور تتجه في هذا الاتجاه بشكل متسارع.”
مواضيع مماثلة للكاتب:
لبنان في مهب الحرب والسلام: صراع السلاح ومصير الدولة | لبنان بين تحديات السيادة وصراعات المنطقة: “رؤية لاستقرار مستدام” | الجيش يضبط المطار: نموذج سيعمم على كل لبنان |