عاصفة 1982


خاص 22 شباط, 2025

شتقنا لأيام الشتاء القديمة، اشتقنا لأيام كان فيها الشتاء شتاءً والصيف صيفاً، واشتقنا لأيام كانت العواصف تفاجئنا فنعيشها ونقاومها ونهرب من صقيعها، ومللنا من الشتاء الذي تسبق أخباره أمطاره، ويسبق صقيعه ثلوجه، وتسبق توقعاته نتائجه..

كتب جوزف طوق لـ”هنا لبنان”:

جلس جدّي على “السطيحة” أمام منزله في بشري يدفئ أطرافه على أشعة شمس متقطّعة بين الغيوم، وهو يشتم شباط “اللبّاط” وطقس هذه الأيام البخيلة بالثلج، ويلعن منجّمي الطقس المنتشرين كالبرغش على مستنقعات صفحات الأرصاد الجوية وتنبؤات الكوارث الطبيعية.
كاهن من هنا، ومذيع من هناك، ومنجّمة من مطبخ منزلها وعرّاف من خلف “دركسيون” سيارته… وجدّي وحده يتذكّر أيام ما كانت تمطر وتثلج بلا أسماء وبلا مقدّمات، وأكثر ما يتذكّره كيف كانت المواسم مختلفة وخيرات الشتاء تهطل عليهم أكثر من هذه الأيام “السودا” على حدّ تعبيره.
قرأت عليه، وهو الذي قارب المئة من عمره، خبراً عن قدوم العاصفة “آدم”، والتي من المتوقع أن تكون الأقسى منذ أكثر من 50 عاماً، ونصحته بتحضير “الحطبات الكبار”… ابتسم، ووضع “عودين” صغيرين في المدفأة على قدر حاجة “آدم” وصقيعه، واتّكأ على مسنده وهو يلعن سماء منجّمي الطقس، وروى لي ما حدث منذ 43 عاماً.
تنهّد واسترسل قائلاً: “عام 1982، جاء موسم الشتاء كما كل المواسم، وتحضّرنا له كما نتحضّر عادة في القرى الجبلية العالية، نقطع الحطب ونرصفه خلف البيت، نملأ الرفوف بالمونة، نكدّس الحرامات في غرفة الجلوس، ونجلس حول الموقدة لحين ذوبان آخر رقعة ثلج. لكن في العام 1982، ضربت لبنان عاصفة قوية، وتساقط الثلج بشكل متواصل لأكثر من أسبوع، وعندما اشتدّت “هيديك العاصفة يلي ما كان الها اسم” لم يعد باستطاعتنا حتى الخروج من المنزل… “انزربنا” في نهايتها قرابة 3 أيام، وعندما فتحنا باب المدخل، وجدنا حائطاً من الثلج يسدّ الباب، ما اضطرنا إلى فتحه بالرفش. ويتذكّر جدّي أنّ خالي مشى فوق أعمدة الكهرباء في منطقة الأرز تلك السنة من كثرة تراكم الثلوج. ويروي كيف تدخل الجيش اللبناني في ذلك العام، وراحت الطوافات ترمي المواد الغذائية والأدوية الضرورية قرب “مدرسة الصبيان” في بشري حتى لا تموت الناس من الجوع”.
بالنسبة إلى جدّي، عاصفة عام 1982 هي أشدّ عاصفة ضربت لبنان في آخر 50 سنة، وتليها عاصفة شتاء 1992. وبعد سماع روايته، بحثت في الأرشيف ووجدت أخباراً كثيرة عن عاصفة العام 1982، والتي كانت قاسية على كل لبنان وخصوصاً على المناطق الشمالية منه، وحتى أنها ضربت منطقة ضهر البيدر حيث مات عشرات الأشخاص بعد أن اختنقوا وماتوا من البرد داخل سياراتهم على الطريق بعد أن طُمروا تحت الثلج.
عندما كنّا صغاراً، كان الشتاء شتاء… مطر وثلج وصقيع ونار وحرامات نتدفّأ بها، أمّا اليوم أصبح موسم الشتاء مثل مواسم الموضة، لا ننتظر المطر والثلوج بل ننتظر أسماء العواصف، وفيما كنّا نختبئ في الماضي تحت الشمسة، أصبحنا اليوم نختبئ خلف هواتفنا من المطر، ننتظر الأخبار والتوقعات والتسميات، وننتظر الغيوم والأمطار عندما تظهر في المحيط الأطلسي في طريقها إلى حوض المتوسط. كنّا صغاراً وكنّا لا نذهب إلى المدرسة بسبب تراكم الثلوج وعدم قدرة “الأوتوكار” على لمّ الأطفال من منازلهم، أمّا اليوم وبمجرّد انتشار خبر رصد غيمة على شواطئ مضيق جبل طارق، يعتزل الأهل تعليم أولادهم، ويزربونهم في المنزل بعد أن يتنبّأ أحدهم بقدوم العاصفة “شارلوتا” بعد شي 3 أو 4 أيام.
“يا مدام” الأولاد “ما بيتشّوا ع الميّ”، والمطر مفيد لبشرتهم ويمنحهم مناعة على الهبل والجهل، ويحميهم من ضربات “السوشل ميديا”، حيث تضرب العواصف العقول، وعلى الأرض لم تعد العواصف تضرب الحقول.
والله اشتقنا إلى أيام الشتاء القديمة، واشتقنا إلى حجم النار أمام أرجلنا التي كانت وحدها تخبرنا عن حجم العاصفة في الخارج، حتى أننا اشتقنا إلى بهدلة برك المياه والوحول والسير في الثلوج المتراكمة، واشتقنا إلى نزلات البرد وأنوفنا الحمراء التي تسيل من شدّة الصقيع، اشتقنا إلى ثيابنا المبلّلة بالمياه وشمسياتنا المكسورة من شدّة الرياح… والله اشتقنا إلى أيام كان فيها الشتاء شتاء والصيف صيفاً، واشتقنا إلى أيام كانت العواصف تفاجئنا فنعيشها ونقاومها ونهرب من صقيعها، ومللنا من الشتاء الذي تسبق أخباره أمطاره، ويسبق صقيعه ثلوجه، وتسبق توقعاته نتائجه.
فليمتهن منجّمو الطقس علوم الكواكب والأبراج، وليتركوا لنا الشتاء الذي لم نكن نخاف منه ونعيشه، وبتنا اليوم نخاف من أخباره ومن لفحات هوائه التي تضرب تلفوناتنا فتصيبنا بـ”لقوة” غيّرت معالم عقولنا.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us