أسعار الإيجارات السّكنية تتخطّى المنطق: هجرة العاصمة وعودة إلى القرى!

قد تتحول بيروت تدريجيًّا إلى مدينة مخصصة للنّخبة الاقتصادية والمستثمرين، فيما تتقلّص قدرة الفئات الأخرى على الاستمرار في العيش داخلها. إلّا أنّ هذا النّموذج غير مستدام على المدى البعيد، إذ إنّ العواصم المزدهرة تحتاج إلى تنوّع اجتماعي واقتصادي يضمن ديناميكيتها واستمراريتها. وسَطُ المدينة هو مثال صارخ عن مدن أو مناطق النّخبة التي يمكن أن تتحوّل إلى مدن اشباح بفعل الأزمة كونها غير مرتبطة بنسيج اجتماعي متنوع، في ظلّ غياب سياسات حكومية واضحة لتنظيم سوق العقارات والإيجارات.
كتب ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
بعد الحرب الاسرائيلية على لبنان وموجة النزوح الواسعة التي شهدتها المناطق والبلدات المحسوبة على حزب الله وخسارة عشرات آلاف العائلات لمنازلهم ارتفع الطلب على الشقق السكنيّة خصوصًا في العاصمة بيروت، ومعه ارتفعت أسعار الإيجارات، ليدخل لبنان في أزمة سكن جديدة أكثر “خنقًا” للمستأجرين.
يروي محمد مستأجر في منطقة الطريق الجديدة لموقع “هنا لبنان” كيف ترك منزله في السّعديات بسبب الازمة المالية وارتفاع أسعار المحروقات وقرراستئجار منزل صغير في العاصمة.
ويقول محمد، الموظف في بنك، إنه انتقل الى بيروت بعد أن حالفه الحظ وتمكّن من إيجاد عمل ثانٍ خلال الليل يمكِّنه من تدبير أموره بعد أن تآكلت الرواتب وارتفعت الاسعار، فاستأجر منزلًا مؤلفًا من غرفتين بـ 300 دولار ليُفاجَأ بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله بطلب صاحب الشقة رفع قيمة الإيجار في العقد الجديد إلى 800 دولار. ويضيف محمد: “لم يعد لدي أي حل سوى العودة إلى منزلي فأصحاب العقارات تجار في الأزمات يعملون وفق مصالحهم الخاصة وهو ما بدأ يؤثّر ليس فقط في النازحين بل في جميع اللبنانيين”.
حال فادي كحال محمد هو أيضًا قرّر ترك منزله في عرمون والاتجاه نحو العاصمة بفعل الازمة الاقتصادية التي أكلت الأخضر واليابس في لبنان، فحينها تمكّن من ايجاد منزل صغير هو وعائلته في منطقة رأس النبع بـ 600 دولار أمّا اليوم وبعد انتهاء الحرب أبلغه صاحب الشقة بارتفاع السعر إلى 1300 دولار. وإما الالتزام أو الإخلاء بعد شهرين أي بعد انتهاء مفعول العقد.
العدوى طالت جنى أيضًا فهي انتقلت خلال الأزمة من منطقة الدبّية إلى منطقة فرن الشباك الأقرب إلى مكان عملها واستأجرت منزلًا مؤلفًا من غرفتين بـ 300 دولار لتُفاجَأَ قبل أيام برسالة من صاحب الشقة يطالبها بـ 750 دولارًا في شهر حزيران المقبل.
وتقول جنى بحسرة لموقعنا: “لم يعد لدي أي حل سوى العودة الى منزل اهلي في الدبية لأن راتبي لا يكفي أصلًا لتسديد بدل الإيجار الجديد”.
وأثارت الأسعار المبالغ فيها للإيجارات، غضبًا واسعًا لدى المواطنين الذين عبَّروا عن استيائهم من تجار الأزمات الذين لا يفوّتون فرص تحقيق المكاسب المادية. يأتي ذلك في وقت يمرّ فيه لبنان بأصعب الظروف وأقساها، حيث بلغت نسبة الفقر فيه 44% من مجموع السكان، وفقًا لأحدث تقرير صادر عن البنك الدولي.
وفي هذا الإطار، يقول الخبير الاقتصادي البرفيسور بيار الخوري لموقع “هنا لبنان”: “عبر حقبات متوالية، تشهد بيروت تحولًا ديموغرافيًا ملحوظًا يتمثل في نزوح معاكس نحو المناطق المحيطة، مدفوعًا بتغيّر أنماط العمل ومؤخّرًا بانتشار ثقافة العمل عن بعد. هذا التغيير دفع العديد من المواطنين لمغادرة العاصمة من دون أن يتأثّروا بفرصهم الوظيفية، خاصة مع تزايد التكاليف المعيشية وصعوبة تأمين سكن ميسور التكلفة”.
ويضيف: “الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بعد الانفجار الكبير في المرفأ، إضافةً إلى تراجع الخدمات الأساسية، دفعت عددًا متزايدًا من السكان إلى البحث عن خيارات سكنية أكثر استقرارًا خارج بيروت، مما أحدث ضغطًا على المناطق المجاورة وأسواقها العقارية. مؤخّرًا، شهدت العاصمة ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الإيجارات، حيث سجلت زيادة بنحو 80% خلال العام الأخير، وأصبحت معظم العقود تُبْرَمُ بالدولار، مما أدّى إلى استبعاد شريحة واسعة من المواطنين غير القادرين على مجاراة هذه التكاليف”.
ويتابع الخوري: “يعود هذا الارتفاع إلى عدّة عوامل، أبرزها زيادة الطلب السكني نتيجة الأضرار الناجمة عن الحرب ودمار مناطق واسعة في الجنوب والضاحية، إلى جانب زيادة طلب المغتربين الباحثين عن فرص استثمارية عقارية في ظل الركود الاقتصادي. دفع الطلب المتزايد أصحاب العقارات إلى رفع الأسعار بشكل غير منظّم، تعويضًا عن ثلاث سنوات من ثبات الأسعار”.
لمواجهة هذه الأزمة، يلفت الخوري إلى أن “المعالجة تتطلب وضع سياسات فعّالة للحدّ من التضخّم في قطاع الإيجارات، منها تحفيز الاستثمار في المناطق المحيطة ببيروت عبر تحسين بنيتها التحتيّة وخدماتها الرقمية، مما قد يخفّف من الضغط على العاصمة. يمكن أيضًا تشجيع مشاريع الإسكان بأسعار مدعومة بالتعاون بين القطاعيْن العام والخاص، وتقديم تسهيلات للرّهن العقاري بالدولار ضمن شروط معقولة، ما قد يسمح للمواطنين بامتلاك مساكنهم بدلًا من الاستمرار في تحمّل تكاليف الإيجار الباهظة. علمًا أنّ الإيجار هو سمة العصر الحديث وهو حلّ للانسان الذي أصبح أكثر انتقالا بسبب تغيّر طبيعة الوظيفة”.
وعلى المستوى الاقتصادي، يقول الخوري: “يؤدي هذا التضخّم إلى تقليص الطبقة الوسطى التي كانت تشكل العامود الفقري للحياة الاجتماعية والاقتصادية في بيروت، حيث يضطر العديد من أفرادها إلى مغادرة المدينة لصالح الفئات القادرة على دفع الإيجارات المرتفعة او الشّراء. هذا التوجّه يساهم في زيادة التفاوت الطبقي ويحدّ من النشاط التجاري، إذ يتراجع الإنفاقُ على قطاعات حيوية مثل التجزئة والخدمات والمطاعم. إذا استمر هذا الاتجاه، قد تتحول بيروت تدريجيًّا إلى مدينة مخصصة للنخبة الاقتصادية والمستثمرين، فيما تتقلّص قدرة الفئات الأخرى على الاستمرار في العيش داخلها. إلّا أنّ هذا النموذج غير مستدام على المدى البعيد، إذ إنّ العواصم المزدهرة تحتاج إلى تنوّع اجتماعي واقتصادي يضمن ديناميكيتها واستمراريتها. وسَط المدينة هو مثال صارخ عن مدن أو مناطق النّخبة التي يمكن أن تتحوّل إلى مدن اشباح بفعل الأزمة كونها غير مرتبطة بنسيج اجتماعي متنوع”.
في ظلّ غياب سياسات حكومية واضحة لتنظيم سوق العقارات والإيجارات، يظلّ المشهد خاضعًا لقوى السّوق والمضاربات العقاريّة التي يقودها سوق العرض والطلب الحرّيْن. ومن دون تدخل فعّال، ستواصل بيروت فقدان هويتها كمدينة جامعة لمختلف الطبقات الاجتماعية، ما قد ينعكس سلبًا على اقتصادها المحلي ويضعف قدرتها على استعادة دورها كمركز حضاري واقتصادي متكامل.