“بغل” الدراما اللبنانية!

خلف إبداع سينتيا كرم في مسلسل “بالدم”، هناك إبداع من نوع آخر لا يقلّ أهميةً اجتمع على تحقيقه ثلاثة، هم المنتج جمال سنان والمخرج فيليب أسمر والكاتبة نادين جابر، كلّ حسب دوره، ولكن مجتمعين قدّموا للدراما العربية مسلسلًا لبنانيًّا صرفًا بأبطاله وبطلاته من الممثلين وبالفريق التقني.
كتب جوزف طوق لـ”هنا لبنان”:
هناك بغل يشدّ عربة ثقيلة أو محراثًا كبيرًا، وهناك بغل يشدّ المشاهدين، يسمّرهم أمام شاشة التلفزيون، يصبح جزءًا من أحاديثهم قبل وبعد أوقات عرض المسلسلات الرمضانية، وكلمة يردّدونها في المقاهي والصالونات. لم يحصل كلّ هذا بالصدفة، وإنّما بفضل براعة ممثلة لبنانية، ليست بطلةً بحجم دورها، وإنما بطلةً بحجم إبداعها في تجسيد شخصية درامية.
“بغل” هي واحدة من الكلمات التي تستعملها الممثلة اللبنانية سينتيا كرم في دورها بشخصية “عدلا” في مسلسل “بالدم”، ولا يمكن الاستهانة بهذه الكلمة بالتحديد لأنّها ساهمت بشكل كبير في رسْم معالم شخصية “عدلا” التي دخلت إلى قلوب المشاهدين، وأصبحت بلا مبالغة محطّة ينتظرونها كل ليلة ويشتاقون إلى مرورها أمام الكاميرا، ويتمنّون كلّ يوم أن يكبر دورها أكثر وأكثر حتى يتسنّى لهم الاستمتاع بأداء سينتيا كرم، وإشباع نظرهم وسمعهم من تفاصيل هذه الشخصية المثيرة.
“عدلا” مجرّد فتاة بسيطة بعقلها وقلبها ومظهرها، كلامها وقراراتها ومشاعرها وملابسها تدلّ على شخصية تبحث عن أي شخص أو أي موقف ينتشلها من التهميش ويعترف بوجودها حتّى تشعر بأنّها ليست نكرة. وهذا الدور كان يمكن أن يمرّ من دون أن نلاحظه نحن المشاهدين، ولكن من حسن حظّنا أنّ الخيار وقع على سينتيا كرم لتجسيده، فلم تعامله باستخفاف، وإنما تؤكّد لنا في كل حلقة أنّها منحته كل ما في داخلها من موهبة وتقنيات تمثيلية لتصبح “عدلا” الشخصيّة الرمضانيّة الأبرز في هذا الموسم.
لكن لماذا أحببْنا “عدلا”؟ لماذا تعلّقنا بها؟ ولمَ هي دون سواها من الشخصيات؟ هل فقط لأنها تشبهنا ونشبهها، أم لأنها تتحدّث مثلنا وبلغتنا؟
المشاهد، وعلى الرَّغم من أنه ليس ناقدًا فنيًّا ولا متخصّصًا في علوم الدراما والتمثيل، إلّا أنه يلتقط “عالطاير” الممثل الجيد من السيّء، ويفهم بشكل فطري الأداء المميّز ويتفاعل معه، كما يتفاعل اليوم مع شخصية “عدلا”. والمشاهد يعرف أن سينتيا كرم تقدّم في مسلسل “بالدم” ما لا يقدمّه الكثيرون من الممثلين والممثلات في مختلف المسلسلات، ألا وهو لبس الشخصية إلى حدّ الانصهار معها، وعيش الدور إلى درجة نسيان التمثيل، فتختفي سينتيا لتحيا عدلا ضيفةً مرتقبةً في صالونات منزلنا كل ليلة.
الممثلون والممثلات كُثُر، والأدوار والمسلسلات بالكيلو، ولكن ما يلفت الجمهور في كل هذا هم أولئك القلائل من الممثلين الذين لا يكتفون بارتداء ملابسهم وتسميع سطورهم وعرض مفاتنِهم، وإنّما يرتدون الأدوار بعد أن يخيّطوا تفاصيلها ويمتهنون أبعادها النفسية والجسدية والاجتماعية، وينتبهون إلى أدقّ تفاصيلها أكان بالكلام أو الحركة أو الانفعال، تمامًا مثل شخصية “عدلا”… لتصبح كلمة “بغل” ليست مجرّد كلمة بل شيئًا برائحة وطعم وإحساس، يفتح شهية المشاهد على التهام الحلقات وعيش التطورات، وأكثر من ذلك أخذ المسلسل من الشاشة وتحويله إلى نقاش في الحياة اليومية مدفوع بقوة شخصيات لافتة مثل “عدلا”.
وخلف إبداع سينتيا كرم في مسلسل “بالدم”، هناك إبداع من نوع آخر لا يقلّ أهميةً اجتمع على تحقيقه ثلاثة، هم المنتج جمال سنان والمخرج فيليب أسمر والكاتبة نادين جابر، كلّ حسب دوره، ولكن مجتمعين قدّموا للدراما العربية مسلسلًا لبنانيًّا صرفًا بأبطاله وبطلاته من الممثلين وبالفريق التقني، والأهم بمنح مساحة لافتة للمواهب اللبنانية الأقل شهرة وغير المنغمسة في الإنتاج التلفزيوني المتوحّش، ليثبتوا أنّ غير النجوم والنجمات، هناك شريحة من خرّيجي المسرح ومعاهد التمثيل قادرون أن يبرعوا بأدوارهم، والتقاط المشاهدين بشطارة في التمثيل والإقناع.
وإذا كانت كلمة “بغل” قد أدخلت شخصية درامية إلى قلوب المشاهدين ورسّخت هوية سينتيا كرم كممثلة موهوبة، فلا بدّ من إزاحة “كم بغل” (بالمذكّر والمؤنث) عن الكثير من أدوار البطولة والنجومية، واستقطاب المزيد من الممثلين القادرين على خلق المزيد من الشخصيات التي تشبه “عدلا” حتى تعود الصحة إلى الدراما اللبنانية.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() عاصفة 1982 | ![]() ع السكّين يا وزير! | ![]() الدعارة الأهلية! |