الانتخابات البلدية في لبنان: بين ضرورات الديموقراطية وشبح التأجيل

لا ينبغي أن يُستخدم العدوان على لبنان كذريعة لتعطيل الانتخابات في جميع أنحاء البلاد. يمكن تأجيل الانتخابات فقط في البلدات والقرى التي تعرّضت مباشرة للعدوان، ودفعت أثمانًا باهظة من الشهداء والدمار.
كتب جوني فتوحي لـ”هنا لبنان”:
تُعَدُّ الانتخابات البلدية استحقاقًا ديموقراطيًّا جوهريًّا يكرّس المشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام المحلي، ويُتيح للمواطنين اختيار ممثليهم في البلديات لمتابعة شؤونهم الحياتية والتنموية. وفي لبنان، تكتسب هذه الانتخابات أهميةً مضاعفةً، كون البلديات تُشكّل الركيزة الأساسيّة للحكم المحلي، في ظل غياب اللّامركزية الموسّعة وضعف مؤسّسات الدولة المركزية.
وعلى الرَّغم من الدور الحيوي الذي تلعبه البلديات، فإنّ الانتخابات البلدية غالبًا ما تواجِه عراقيل سياسية وتقنية ومالية تؤدي إلى تأجيلها المتكرّر، ما ينعكس سلبًا على الحياة الديموقراطية والإدارية في البلاد. وفي الآونة الأخيرة، برزت نقاشات واسعة حول ضرورة إجرائها في موعدها المحدّد، في مقابل دعوات لتعديل قانونها أو تأجيلها لأسباب مختلفة، من بينها الحرب الإسرائيلية على لبنان والضرر الذي ألحقته بالبلدات الحدودية وتهجير سكانها، مما يعقّد عملية الاقتراع.
وفي هذا السّياق، تباينت المواقف بين القوى السياسية حول إمكانية إجراء الانتخابات في ظلّ الظروف الراهنة، إذ يرى البعض أنّ أي تأجيل إضافي يُهدّد الديموقراطية المحلّية ويُكرّس واقعًا إداريًا غير صحي.
بارود: الانتخابات البلدية حاجة ملحّة
في هذا السياق، أشار وزير الداخلية الأسبق زياد بارود لـ”هنا لبنان” إلى أن “قانون الانتخابات دائمًا بحاجة إلى تعديل، وهناك عدّة مشاريع واقتراحات، أحدها كنت قد قدمته في عام 2010، وأقرّه مجلس الوزراء بعد مرور خمس أو ست جلسات، وهو الآن مطروح في مجلس النواب. هناك أيضًا مشروع آخر قيد المناقشة في لجنة الدفاع والبلديات، ولكن لم يصدر أي قرار بشأنه بعد”.
وأضاف: “إلا أنّني لا أقول إنّه لا يمكننا، قبل أسبوع من الانتخابات البلدية، الحديث عن تعديل القانون. إن هذه الانتخابات يجب أن تُجرى في موعدها، خاصة بعد أن تأجّلت ثلاث مرات، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال إرجاؤها مجدّدًا تحت عنوان قانون جديد أو مناقشة قانون جديد. إنّ اقتراح أي تعديل قبل أسبوع من الانتخابات أمرٌ في غاية الخطورة، لأنه قد يؤدّي إلى تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية التي تأجّل موعدها للمرة الثالثة. ولذلك، أرى أنه ينبغي إجراء الانتخابات أولًا، وبعد ذلك يمكننا البحث في القانون بتمعّن أكبر، ولا يوجد أي مشكلة في ذلك”.
وتابع: “أمّا التعديلات المطلوبة على مستوى الانتخابات البلدية والاختيارية، فهي لا تتعلّق بفلسفة قانون البلديات، لأنّ هذا القانون يمنح البلديات صلاحيات واسعة ويمنحها هوية واضحة. إنّ المشكلة تكمن في كيفية إجراء الانتخابات، فمن المؤكّد أنه يجب التصويت، كما أنّ البلديات التي تُمنح هذه الصلاحيات الواسعة بموجب القانون، تُحرم في المقابل من الإمكانات المالية والموارد اللازمة لممارسة هذه الصلاحيات. لذلك، أنا أتفق معك بأنّ هناك حاجة إلى تعديل، وهناك العديد من الأفكار والمشاريع، ولكنّ الوقت غير مناسب إطلاقًا لإجراء أي تعديل قبل الانتخابات البلدية”.
وقال بارود: “لقد قرأت تصريحًا لوزير الداخلية يؤكِّد فيه أنّه جاهز، وأنا على يقين تامّ بأنّ وزارة الداخلية تمتلك الجهوزية اللوجستية والتقنية الكاملة. أما فيما يتعلق بالتمويل، فلم يعد مقبولًا أن يُقال لنا إنّه لا يوجد مال لإجراء الانتخابات، فهذا الاستحقاق هو واجب على الدولة، ويجب أن يتمّ بأي شكل من الأشكال. ومهما كانت كلفة إجرائه، فهي تبقى أقلّ بكثير من كلفة عدم إجرائه، لأنّ ثمن غياب الديموقراطية وتأجيل الاستحقاقات الديموقراطية أعلى بكثير من أي كلفة لوجستية تتطلّبها الانتخابات. أمّا من الناحية المبدئية، فالموضوع ليس مجرّد قضية شكلية، بل هو استحقاق ديموقراطي وحقّ للمواطنين. إنّ الوكالة الشعبية التي مُنحت للسلطات المنتخبة قد انتهت في أيار 2022، أي منذ ثلاث سنوات، وبالتالي أصبح من الضروري تجديدها، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الانتخابات”.
ولفت إلى أن “تداعيات الحرب ستؤثر بالطبع في كل شيء، من المدارس إلى البلديات. فكما تأثر القطاع التربوي والتعليمي، تأثّرت أيضًا البلديات. لكن لا ينبغي أن يُستخدم العدوان على لبنان كذريعة لتعطيل الانتخابات في جميع أنحاء البلاد. يمكن تأجيل الانتخابات فقط في البلدات والقرى التي تعرّضت مباشرة للعدوان، ودفعت أثمانًا باهظة من الشهداء والدمار. وأعتقد أنّ عدد هذه القرى والبلدات لا يتجاوز الأربعين أو الخمسين، وبالتالي يمكن تأجيل انتخاباتها وإجراؤها لاحقًا، تمامًا كما حدث في الانتخابات البلدية والاختيارية في السّابق، حين تمّ تأجيلها في القرى التي كانت تُعرف بالمناطق المحتلة أو الشريط الحدودي حتى عام 2000، وذلك لأسباب موضوعيّة تتعلق بالعدوان والحرب. لكن لا يجوز استخدام هذا العنوان كذريعة لتعطيل الانتخابات البلدية والاختيارية في جميع المناطق. يجب أن نكون واضحين في هذا الأمر، فالانتخابات استحقاق لا يمكن التلاعب به”.
أما عن الـ”ميغاسنتر”، فعلّق بارود: “الموضوع المتعلق بـ”الميغاسنتر” ملحٌّ جدًّا، وقد تأخر كثيرًا. لا جدال في أنه يجب اعتماد “الميغاسنتر” في كل شيء، سواء في الانتخابات البلدية أو النيابية. لكن لماذا يتمّ تصويره على أنه قضية معقّدة؟ في التخطيط العام، يُستخدم هذا المصطلح وكأنّه يحمل أبعادًا كبيرة، بينما هو في الواقع أمر بسيط، ويمكن تطبيقه ضمن الوقت المتاح. لا أرى عوائق كبيرة أمام تنفيذه، فهو ليس بالأمر الصعب، خصوصًا أن هناك أشخاصًا لا يمكن إجبارهم على العودة إلى قراهم لممارسة حقّهم الانتخابي. أما بالنّسبة للقرى التي ذكرتها، والتي يتراوح عددها ما بين أربعين وخمسين قرية أو بلدية، فمشكلتُها لا تتعلّق فقط بعدم تطبيق “الميغاسنتر”، بل تتجاوز ذلك إلى عدم القدرة على إجراء الانتخابات من الأساس. في هذه القرى، قد يكون من الصعب على المرشّحين حتّى تحديد من يترشّح ومن ينتخب، فالمشكلة هناك أعمق بكثير من مجرد يوم الاقتراع. لذلك، عند الحديث عن هذه البلدات، لا بد من أخذ ظروفها الخاصة بعين الاعتبار، فهي لم تكن في وضع طبيعي يسمح بإجراء حملات انتخابية وترشيحات بصورة اعتيادية”.
ربيع الهبر: استحقاق لا يحتمل التأجيل
وأكّد ناشر موقع “ليبانون فايلز” ربيع الهبر لـ”هنا لبنان” أنّه “لا يمكن التذرّع بأي ظرف لتأجيل الانتخابات البلدية، فهذا الاستحقاق يجب أن يُنجز في موعده، لأنه يشكّل ركيزة أساسية في بنية الديموقراطية المحلية. إنّ استمرار تأجيله بحجج واهية لا يخدم إلا القوى التي تخشى الإرادة الشعبية وتسعى إلى تكريس الأمر الواقع لمصلحتها”.
وأضاف: “في ظلّ الدمار الذي ألحقه العدوان الإسرائيلي بعدد من البلدات والقرى، يمكن تنفيذ الانتخابات في المناطق التي لم يلْحق بها الخراب، فهذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها البلاد تحدّيات كبرى، ومع ذلك، لم يتم تعطيل الحياة الديموقراطية بهذا الشكل. إنّ ربط الاستحقاق البلدي بإعادة الإعمار ليس سوى ذريعة لتعطيله، و”مَنْ ضَرَبَ ضَرَبْ ومَنْ هَرَبَ هَرَبْ”، ولا أحد يستطيع لملمة أوراقه خلال ستة أشهر أو سنة، لذلك لا مبرر لأي تأجيل إضافي”.
وقال الهبر: “أما الحديث عن تعقيدات تقنية ومالية تتعلق بالميغاسنتر، فهو مجرد تضليل للرأي العام، لأنّ إنشاء هذه المراكز ليس بالأمر المعقّد، ولا يتطلب تمويلًا هائلًا كما يروّج البعض. هناك وسائل إدارية وتقنية يمكن أن تسهّل العملية الانتخابية من دون الحاجة إلى ضخّ أموال طائلة أو استحداث آليات معقدة”.
وعن احتمال تأجيل الانتخابات، قال: “قد يكون هناك مجال لتأجيل الانتخابات لأسباب تقنيّة لفترة قصيرة لا تتعدّى أسبوعين، ولكن أي تمديد إضافي سيكون مرفوضًا تمامًا”.
عن المزاج العام للشارع اللبناني، قال الهبر: “لا يمكن تجاهل أنّ شعبية الثنائي الشيعي ما زالت كما هي، فيما شهدت شعبية التغييريين تراجعًا واضحًا، ما يعكس واقعًا انتخابيًا جديدًا يجب أخذه بعين الاعتبار. لكن في نهاية المطاف، تبقى الانتخابات هي المعيار الوحيد لقياس المزاج الشّعبي، وبالتالي لا يجوز تعطيلها بحسابات ضيقة على حساب مصلحة الناس والديموقراطية”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() الرئيس في مقدمة الشّعب حاملًا راية اللّامركزية الموسّعة | ![]() إتفاقية وقف إطلاق النار: سلام هش أم فخ دائم؟ | ![]() لبنان وسقوط النظام السوري: ما القادم؟ |