الانتخابات البلدية: تكريس النفوذ الحزبي وتجريد المواطن من القرار

الانتخابات التي تُشكّل محطة لتعزيز الديمقراطية المحلية، يتمّ اليوم تعريتها من أهدافها، وتسخيرها في إطار الإمساك بـ”سلطة” بات من الثابت تعزيز صلاحياتها، في ظلّ وضع البحث في حيثيات قانون اللامركزية الإدارية على نارٍ حامية
كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:
بينما يُفترض بالانتخابات البلدية أن تكون مدخلاً لتعزيز الحكم المحلي وتنمية المجتمعات، تتعامل معها القوى السياسية كفرصة لتعزيز سطوتها وتكريس الزبائنية، ما يُفرغ هذا الاستحقاق من مضمونه الإنمائي والديمقراطي، ويحوّله إلى حلقة جديدة في مسلسل تقاسم السلطة والسيطرة على المدن والقرى اللبنانية.
تُخرج بعض القوى السياسية استحقاق الانتخابات البلدية من إطاره المحلي – الإنمائي، لتضعه في إطار توسيع فرض سلطتها وتحكّمها في مستقبل المجتمعات المحليّة. وعوضاً عن تسخير هذا الاستحقاق لتعزيز الديمقراطية التي تُمكّن المواطنين من المشاركة في صنع القرار، برز خوض الأحزاب والمسيحية منها، معركة السيطرة على اتحادات البلديات، قبل مشاركة المواطنين الفعلية في صنع القرار على المستوى المحلي، بما يتلاءم ومصالح أبناء البلدات والقرى في لبنان.
الانتخابات، التي تُشكّل محطة لتعزيز الديمقراطية المحلية، وفرصة لاختيار مجلس بلدي فعّال يشرّع الطريق أمام بروز وجوه جديدة قد تؤدي إلى تحسين نوعية الخدمات اليومية للمواطنين، يتمّ اليوم تعريتها من أهدافها، وتسخيرها في إطار الإمساك بـ”سلطة” بات من الثابت تعزيز صلاحياتها، في ظلّ وضع البحث في حيثيات قانون اللامركزية الإدارية على نارٍ حامية.
ورغم ما يحمله هذا الإصلاح الإداري، الذي تمّ الاتفاق عليه في “الطائف”، من أوجهٍ وغموض في مآل الصلاحيات التي ستناط بالوحدات الإدارية الصغرى، تخوض القوى السياسية معركة توسيع سلطتها في إدارة الدولة من باب الانتخابات البلدية و”الإصلاحات الأخرى” التي تضمّنتها وثيقة الوفاق الوطني – اتفاق الطائف، والتي أشارت إلى إمكانية اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون)، وتوسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين المنتخبين محلياً، وتعزيز موارد البلديات واتحادات البلديات بالإمكانات المالية اللازمة بما يكفل تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً.
وعلى أنقاض القرى والمدن المدمّرة، دقّ الجنوبيون والبقاعيون نفير الاقتراع بالدماء للوائح الثنائي الشيعي، لتكريس تحكّمهم بتمثيل المناطق الشيعية. وعلى الخطى ذاتها، وتحت عناوين حماية المسيحيين وقدرة الأحزاب القوية على تأمين الحماية والمكاسب للمناطق المسيحية، تنشط التحالفات في القرى المسيحية بما يضمن السيطرة على سلطة القرار في اتحادات البلديات المسيحية.
أمّا بيروت، فإن الرهان “مشترك” على الإطاحة بالمناصفة والتمثيل المتوازن بين المسيحيين والمسلمين، وتكريس أحقّية المطالبة بالتقسيم والفدرالية، انطلاقاً من تقسيم بلدية العاصمة إلى بلديتين أو أكثر، بحيث يتولى المسلمون إدارة شؤونهم، والمسيحيون إدارة وتنمية أحيائهم.
وهذا ما دفع المتابعين إلى وضع عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في إطار التحذير من تغييب دور المواطن في لبنان عن صنع القرار، وذلك بعد أن أكّد الراعي أنّ نشوء لبنان واستقلاله واستقراره ارتكز على ثلاثية النظام والصيغة والميثاق، وأنّ “التعدّدية والفدرالية والمركزية، حتى السبعينيات الماضية، كانت مفردات غريبة عن قاموسنا السياسيّ والدستوريّ”.
وإذ لفت البطريرك الراعي إلى أنّ الديموغرافيا لم تكن معيار نهضة لبنان، بل الشراكة وصيغة التعايش المسيحي – الإسلامي النموذجية، كشف أنّ “غاية البعض هي السيطرة على الدولة، وليس تحديث النظام”، وحذّر من أن تحوّل المطالبة بتطوير النظام إلى انتزاعٍ للحكم من شأنه أن يولّد الحرب الأهلية. وأشار إلى أنّ “بعض الذين يطالبون بالتغيير الدستوريّ يرمون إلى توسيع سلطتهم في إدارة الدولة، لا إلى تحسين الدولة”؛ وقال: “المطلوب اليوم أن تتنازل الطوائف للدولة، لا الدولة للطوائف، وأن يحتضن الطرفان المواطنين الباحثين عن دولة مدنيّة”.
وأمام التوصيف الدقيق للبطريرك الراعي عشية الدخول في حياكة الصفقات والتسويات الانتخابية، فهل يستفيق المواطنون إلى ما يُحاك لهم من مدّعي حمايتهم وتمثيلهم؟ وهل ترتقي القوى الوطنية إلى مستوى التحدّي والمخاطر، وتنخرط في مشروع بناء واستنهاض دولة المؤسسات، بعيداً عن الشعبوية، عوضاً عن تكريس دولة الأحزاب المتاجرة بالطوائف وحقوقها، بدءاً من الانتخابات البلدية والاختياريّة؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() بين ذاكرة الحرب وأمل الدولة: لبنان على مفترق طرق | ![]() منصات تهدّد لبنان: أيّ مستقبل ينتظرنا؟ | ![]() جنبلاط: من إرث الشهادة إلى صناعة المستقبل |