تقسيم أم استئصال “أذرع إيران”؟

بدأ القتال بعد يومين من إطلاق نفير التطوّع، وشاركت فيه مجموعة من منظمة “الصاعقة” التابعة للأسد تقدمت من الشرق عبر محور بعورتة – الدامور، وارتكبت غالبية المجازر بحق المدنيّين عبْر هذا المحور. وتمّت محاصرة الرئيس كميل شمعون في قصره بالسعديات الذي لجأ إليه، فيما لجأ العديد من العائلات الهاربة من مجازر منظمة الصاعقة إلى قصر غندور المجاور.
كتب محمد سلام لـ”هنا لبنان”:
الجمعة 28 شباط عام 1975، تسلّم رئيس مكتب الأمن الفلسطيني الموحّد في بيروت صلاح خلف (أبو أياد) ما كان يعرف بـ”طرد ماشي” من دمشق وكلّف أحد المدقّقين بتفريغه وتشريح مصادره.
“طرد ماشي” هو تسمية محلية – مكتبية “لمخبِر معتمد” ينقل معلوماتٍ غير مدوّنةٍ بل محفوظة لمنع مصادرتها من قبل أجهزة معادية، ولدى وصوله إلى وجهته يفرغ ما حفظه لمدقّق مكتب الأمن الفلسطيني الموحّد الذي يحدّد مسار متابعة مضامينه والفرضيّات التي تتفرّع منها.
“الطرد الماشي” أفاد بأنّ الرئيس السوري حافظ الأسد كلّف قائد منظمة الصاعقة التابعة له زهير محسن بالتخطيط “لاعتداء مشهود من قبل الفلسطينيين على المسيحيين ما يبرّر دخول الجيش السوري إلى لبنان تحت ذريعة حماية المسيحيين وهو ما لا يمكن أن يعارضه الغرب”.
وأكد المخبر المعتمد أنّ “زهير محسن يخطّط لتوريط مخيّم جسر الباشا في الصراع”!
في ذلك الوقت، كان يوجد في لبنان ثلاثة مخيماتٍ تأوي فلسطينيّين مسيحيّين في غالبيتهم هي مخيّم مار الياس في بيروت، ومخيّم ضبية شمالي بيروت ومخيّم جسر الباشا في الضاحية الشرقية للعاصمة.
مخيم جسر الباشا هو أصغر مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين تأسس سنة 1952 على مساحة 22 ألف متر مربع وسكّانه جميعهم من الفلسطينيين الكاثوليك الذين تهجّروا من مدن حيفا ويافا وعكا.
كان واضحًا أنّ مخيم جسر الباشا هو في عيْن عاصفة حافظ الأسد وزهير محسن، ولكن كيف يمكن توريط “مخيّم صغير ومعزول ومكوّن من سكان مدن” في اعتداء على مسيحيّين لبنانيّين يحيطون به من كل الجهات؟
بعد 44 يومًا، وتحديدًا الأحد 13 نيسان من ذلك العام، ابتدع العقل الإجرامي للنظام الأسدي مجزرةَ ضربِ ضحيتيْن مسيحيتيْن ببعضهما البعض واجتاح لبنان على جثتيْهما معًا.
كان يفترض أن تنطلق حافلة من مهرجان تنظمه فصائل فلسطينية في أحد مخيمات بيروت الغربية إلى مخيّم جسر الباشا، كما انطلقت حافلة ثانية من المخيم نفسِه متوجّهة إلى تل الزّعتر.
الحافلة التي يفترض أنّ تتوجّه إلى تلّ الزعتر لم تسلك طريق المتحف – الجديدة، بل، لسببٍ ما زال مجهولًا، توجّهت عبر منطقة الشياح إلى عين الرمانة ودخلتها بعد تعرّض رئيس حزب الكتائب بيار الجميل لمحاولة اغتيال بإطلاق النار عليه من سيارتيْن مجهولتيْن أثناء تدشينه كنيسة، فصبّ المدافعون عن المنطقة نيرانهم على الحافلة وركابها معتقدين أنّها استكمال لهجوم عليهم.
“بوسطة” جسر الباشا حوّلها شرطي مجهول عند مستديرة مار مخايل إلى عين الرمانة زاعمًا أنّ الطريق مقفل عند مستديرة الصياد نظرًا لزحمة السير المتوجّهة إلى بيروت يوم الأحد في فترة الذّروة.
لكنّ سائق بوسطة جسر الباشا، العارف بتوتّر أجواء عين الرمانة – فرن الشباك منذ أكثر من سنتيْن مع بدء الاشتباكات بين جيش الرئيس سليمان فرنجية ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية لم يتوجّه إلى عين الرمانة، بل نقل ركابَه إلى مخيم برج البراجنة فيما شاع نبأ الاشتباكات.
فمن حوّل “بوسطة” تل الزّعتر إلى عين الرمانة، ومن هو الشرطي الذي أراد أن يزجّ حافلة جسر الباشا في معركة عين الرمانة؟ لا جواب حتّى اليوم.
ولم يعدْ السؤال ما الذي حصل في عين الرمّانة؟ بل صار ماذا حصل لمخيّم جسر الباشا الذي أزيل عن الخريطة؟ وماذا حصل لمخيم ضبيّة؟ وماذا حصل في بلدة الدامور؟ علمًا أنّ التطورات الثلاثة هي استتباعات لذلك المخطّط الأسدي الخبيث الذي هدم المنطقة الشرقيّة على رؤوس المسيحيّين في حرب الـ100 يوم بعدما كان يزعم أنّه يريد حمايتهم، واتُّهم بأنّه وراء اغتيال رئيسَيْ الجمهورية بشير الجميّل ورينيه معوّض ورئيس الوزراء رشيد كرامي والأمين العام للحزب الشيوعي جورج حاوي الذي قتلته متفجّرة زُرعت في مقعده ولم تجرح سائقه الذي كان يجلس قربه على المقعد الأمامي وهو اغتيال مماثل لما تسبّبت به المتفجرة التي قتلت كرامي من دون أن تجرح ركاب المروحيّة حوله. ويطول السؤال ليشمل من فجّر سيارات سمير قصير وميْ شدياق وجبران التويني؟ مع حفظ الألقاب للجميع والترحّم على من استشهد؟
بل أي اتفاق بين نظاميْن إرهابيَيْن اتخذ قرار اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقيادات حركة 14 آذار صاحبة شعار “لبنان أولًا”.
وكان النائب السابق خالد الضاهر قد اتّهم النظام السوري باغتيال كرامي، مؤكدًا أنّ “ﺍﻟﻤﻘﺪّﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﺃﺣﻤﺪ ﺣﻠّﻮﻡ هو ﻣﻦ اﻏﺘﺎﻝ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﺍﻟﺸﻬﻴﺪ ﺭﺷﻴﺪ ﻛﺮﺍﻣﻲ، وهو من ﺃﻋﻄﻰ ﺃﻭﺍﻣﺮﻩ ﻟﻠﺮّﺍﺋﺪ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﻣﺤﻤﺪ اﺳﻄﻨﺒﻮﻟﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻣﺮﻛﺰﻩ ﻓﻲ ﻣﻌﺮﺽ ﻃﺮﺍﺑﻠﺲ، ﺣﻴﺚ كانت تتواجد ﺍﻟﻤﺮﻭﺣﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺘﻘﻞ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻛﺮﺍﻣﻲ ﺍﻟﻰ ﺑﻴﺮﻭﺕ. اﺳﻄﻨﺒﻮﻟﻲ ﻗﺎﻡ ﺑﺘﻔﺨﻴﺦ ﺍﻟﻤﺮﻭﺣﻴﺔ ﻟﻤﻨﻊ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻛﺮﺍﻣﻲ ﻣﻦ ﻟﻘﺎﺀ ﻛﻤﻴﻞ ﺷﻤﻌﻮﻥ ﻭﺑﻴﺎﺭ ﺍﻟﺠﻤﻴّﻞ ﻓﻲ ﺑﻴﺮﻭﺕ لتقديم الورقة التي كانت تحوي البنود العشرة لإنهاء الأزمة اللبنانية الحاصلة حيث قال كرامي جملته الشهيرة أثناءها: “الحل في جيبي”.
وتساءل الضاهر: “إن كان لجعجع علاقة باغتيال الرئيس رشيد كرامي، فلمَ عُيِّن في حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1991؟”
باختصار: من هو المتسبّب بكل المآسي التي أصابت لبنان وما زالت جاثمةً على صدره؟
ختام الفصل الأول من مسلسل الدم اللبناني الذي هدره نظام الأسد في ما عرف بحرْب السنتيْن في لبنان كان “مجزرة” بلدة الدامور جنوبي بيروت في 20 كانون الثاني عام 1976 .
“مجزرة” الدامور أسفرت عن مقتل 680 ضحيةً من السكّان والمقاتلين المسيحيّين، والتي جاءت ردًّا على “مجزرة” منطقة المسلخ – الكرنتينا التي نفّذتها الميليشيات اليمينيّة المسيحيّة وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 1.200 شخص بين مقاتلين ومدنيّين مسلمين.
بعد سقوط مخيم ضبية شمالي بيروت في هجوم شنّه نمور الأحرار ما أسفر عن سقوط 74 ضحيةً ثم سقوط منطقة المسلخ – الكرنتينا في 18 كانون الثاني عام 1976، دعا ياسر عرفات إلى “التطوّع” لإخراج عناصر حزب الوطنيين الأحرار من منطقة الدامور – السعديات التي تتحكّم بطريق بيروت – الجنوب.
بدأ القتال بعد يومين من إطلاق نفير التطوّع، وشاركت فيه مجموعة من منظمة “الصاعقة” التابعة للأسد تقدمت من الشرق عبر محور بعورتة – الدامور، وارتكبت غالبية المجازر بحق المدنيّين عبْر هذا المحور.
وتمّت محاصرة الرئيس كميل شمعون في قصره بالسعديات الذي لجأ إليه، فيما لجأ العديد من العائلات الهاربة من مجازر منظمة الصاعقة إلى قصر غندور المجاور.
تولّى العقيد الركن محمود طي أبو ضرغم التفاوض لإخراج الرئيس شمعون ومقاتلي حزب الوطنيين الأحرار من قصر السعديات ومركز “قلعة النمور” المواجه للقصر، كما تولّى التفاوض مع الملازم مأمون، ضابط مخيم ضبية الذي أحضره عرفات للتفاوض مع داني شمعون الذي كان قد ضربه وكسر فكّه يوم اجتاح المخيم.
تمكن أبو ضرغم، الذي تولى لاحقًا منصب رئيس أركان الجيش، وقف المواجهة بين مأمون وداني شمعون، وأمَّن بدلات عسكرية لعناصر الأحرار، ونقلهم بسيارته إلى فيلا غندور وتولّت الزوارق المطاطيّة نقلهم منها إلى بارجة تابعة للبحرية اللبنانية. كما تمّ نقل المدنيين إلى بواخر كانت قد أُرسلت من مرفأ جونية لإخلائهم.
سُئِلَ أبو ضرغم عن تقييم الرئيس كميل شمعون لما يجري فقال: “سألته هل يُقَسَّم لبنان يا فخامة الرئيس. قال لي خللي عينك عالعراق يا محمود، إذا تقسّم العراق بتتقسم المنطقة”.
صحّ توقع الرئيس كميل شمعون، تقسّمت المنطقة عندما قُسِّمَ العراق الذي غزته أميركا بحجّةٍ كاذبةٍ أنّه يملك أسلحة دمار شامل ثبت عدم وجودها.
السّؤال يتكرّر اليوم لكن بصيغة أوسع: هل ستُقسّم المنطقة من لبنان إلى اليمن إذا لم تُستأصل منها “أذرع إيران” وِفق ما دعت إليه نائبة المبعوث الأميركي الخاص للسلام في الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس التي اعتبرت في تصريح للنشرة الإنكليزية لفضائية “العربية” أنّ حزب إيران المسلح هو “سرطان” يجب استئصاله؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() سلام مع إسرائيل من دون تطبيع | ![]() غزة إلى التعافي | ![]() غزّة بلا حماس “ليبقى الناس” |