ذكريات النار والرماد: شهادات حيّة من قلب الحرب الأهلية

لم تكن الحرب مجرد صراع مسلح بين أطراف، بل زلزالاً بشرياً ضرب جذور لبنان، وترك خلفه ندوباً لا تُشفى بسهولة. رغم أنّ البنادق صمتت، إلا أن أصداء الرصاص ما زالت تتردد في أذهان كثيرين، ليس فقط في لحظات الهدوء، بل حتى في تفاصيل الحياة اليومية: في انقطاع الكهرباء، في جدران المباني المليئة بثقوب الطلقات، وفي خوفٍ غامض يمرّ عبر الأجيال
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
مرت سنوات طويلة منذ أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، لكن آثارها ما زالت محفورة في الذاكرة الجماعية لأولئك الذين عاشوها. لم تكن مجرد صراع مسلح بين أطراف، بل زلزالاً بشرياً ضرب جذور لبنان، وترك خلفه ندوباً لا تُشفى بسهولة. رغم أنّ البنادق صمتت، إلا أنّ أصداء الرصاص ما زالت تتردد في أذهان كثيرين، ليس فقط في لحظات الهدوء، بل حتى في تفاصيل الحياة اليومية: في انقطاع الكهرباء، في جدران المباني المليئة بثقوب الطلقات، وفي خوفٍ غامض يمرّ عبر الأجيال.
جيل كامل نشأ في ظل الحرب، وآخر تربى على حكاياتها. وجيل ثالث لا يزال يبحث عن الحقيقة بين الروايات المتضاربة. لم تُدوَّن كل القصص، ولم تُروَ كل الشهادات. بعض الآلام بقيت في القلوب، وبعض الذكريات تحولت إلى صمتٍ ثقيل.
في هذا التحقيق، يسلط “هنا لبنان” الضوء على الجانب الإنساني من الحرب الأهلية، بعيداً عن الأجندات السياسية والاصطفافات التي لا تزال تثير الجدل. نستعرض شهادات حيّة لرجال ونساء كانوا شهوداً، وربما ضحايا، وربما ناجين، من زمنٍ احترقت فيه البلاد واختلط فيه صوت الانفجارات مع صراخ الأمهات وبكاء الأطفال، وساد فيه الخوف حتى بين الجدران الآمنة.
نحن لا نبحث عن مقاربة تاريخية بقدر ما ننقل روايات حقيقية، على لسان أصحابها، كما عاشوها هم، لا كما كُتبت في الكتب أو صيغت في نشرات الأخبار.
بعد مرور خمسين عاماً على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ومرور أكثر من ثلاثة عقود على نهايتها، ننقل لكم شهادات تنبض بالوجع والحنين، ونفتح نافذة على جراح لم تندمل، لكنها تلمّح أيضاً إلى إمكانية الشفاء، وإلى إرادة الحياة التي قاومت رغم كل شيء.
“كل شيء تغيّر في لحظة”
في أحد أحياء العاصمة التي شهدت مواجهات عنيفة، تعيش أم نادر، سيدة في العقد السابع من عمرها. تستقبلنا في بيتها المتواضع، حيث لا تزال آثار الشظايا واضحة على جدرانه رغم محاولات الترميم.
تقول: “كنا نعيش بسلام. فجأة تغيّر كل شيء. في إحدى الليالي، سمعنا إطلاق نار كثيف، ثم بدأ الناس يفرّون من بيوتهم. لم أفهم شيئاً في البداية. قلت لنفسي إنها مناوشات بسيطة. لكننا استيقظنا على واقع مختلف”.
فقدت أم نادر زوجها خلال إحدى جولات القصف حين كان يحاول شراء الخبز من فرن الحي. تقول بحزن: “لم أتمكن حتى من وداعه. استشهد وهو يحمل كيس الخبز”.
رغم الفقد، ترفض أم نادر لغة الكراهية وتدعو أبناءها وأحفادها لتجنب الحديث بلغة الطوائف. “أريد أن يعيشوا بسلام، كما كنا نحن قبل الحرب”.
“كنت طفلاً… وكبرت فجأة”
فؤاد، الذي كان يبلغ من العمر عشر سنوات عند اندلاع الحرب، يعيش الآن في مدينة أوروبية حيث يعمل في مجال الطب النفسي. وافق على مشاركتنا ذكرياته عبر اتصال هاتفي.
“كنت ألعب بالكرة في الشارع مع أصدقائي، حين سمعنا أول انفجار قريب. هرعنا إلى منازلنا. بعدها بأيام تغيّر كل شيء. لم أعد أذهب إلى المدرسة. كنا ننام أحياناً تحت الطاولة أو في الحمام لأنه المكان الأكثر أماناً”.
يروي فؤاد كيف قضى أسابيع في الملاجئ، حيث كان الناس يتقاسمون الطعام والماء في ظروف شديدة القسوة. ويقول: “أذكر امرأة كانت تطهو حساء العدس لأكثر من عشرين شخصاً في قدر صغير. كنا نعيش على ما توفر، لكن الأهم أننا كنا معاً”.
ويلفت فؤاد إلى أن اختياره لهذا الاختصاص كان محاولة لمداواة آثار الطفولة التي سرقها صوت الحرب.
“لسنا أعداء… نحن جيران”
أبو عدنان، صاحب دكان كان على خط تماس سابق، جلسنا معه على شرفة منزله، وبين يديه كوب قهوة، يحاول استرجاع تلك الأيام الصعبة. يفتخر بأنه لم يسمح للكراهية بأن تعمي قلبه. رغم أنّ القذائف كانت تأتي من الجانب الآخر، ويقول لموقعنا: “لا أحمّل أحداً المسؤولية الشخصية، كنت أؤمن أن من يقاتل، ليس دائماً من اختار القتال”.
يتذكر يوماً قام فيه بإنقاذ جاره، الذي كان من طائفة مختلفة، بعد إصابته بشظية في الساق. ويقول: “حملته على ظهري إلى أقرب نقطة طبية. أخبرت المسلحين عند الحاجز أنّ هذا الرجل هو أخي، وإلا لكان الموت مصيره”.
ويرى أبو عدنان أن ما حدث خلال الحرب “ليس نهاية الحكاية”، ويؤمن بإمكانية استعادة الثقة المفقودة. “نحن جيل عانى، لكن يجب أن نعلّم الأجيال القادمة أنّ الحرب لا تصنع وطناً”.
“ذاكرة لا تموت”
وبحسب تقارير منظمات دولية، أسفرت الحرب الأهلية عن مئات الآلاف من القتلى والمصابين، وتشريد آلاف العائلات، وتدمير البنية التحتية في مدن بأكملها. لكن ما لا تحصيه الأرقام هو الألم المتوارث، والذكريات المتجذرة في النفوس.
رغم مرور الزمن، يبقى الحنين إلى السلم والحياة الطبيعية حاضراً في كلام من عاشوا أهوال الحرب الأهلية. لم يكن أحد منهم جندياً ولا قائداً ولا يحمل أجندة سياسية. كانوا بشراً، عالقين وسط نارٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
اليوم، لا يسعى هذا التحقيق إلى تقديم إجابات، بل إلى تذكيرنا جميعاً بأنّ الحرب، أياً كانت دوافعها، تترك دائماً ضحايا خلفها… ضحايا من لحم ودم، يحملون ذكريات النار والرماد، ويحلمون بوطن لا يعود إليه العنف أبداً.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() التحوّل نحو الاقتصاد الرّقمي في لبنان: فرصة للنموّ رغم التحدّيات | ![]() “الريغارات المفتوحة”… فخاخ قاتلة على الطرقات | ![]() أورتاغوس: السلام بالقوة أو بالحرب |