بين ذاكرة الحرب وأمل الدولة: لبنان على مفترق طرق

اللبنانيون، وخصوصًا جيل الشباب، لا يطلبون مصالحةً شكليّةً، ولا ذاكرةً منقّحةً على قياس الأحزاب. ما يطمحون إليه هو العيش في دولةٍ تحترم كرامتهم، وتؤمّن مستقبلهم، وتمنحهم حقّ الانتماء إلى وطنٍ لا يُعرّف نفسه بالحرب، بل بمشروع حياة.
كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:
نصف قرن على اندلاع الحرب في لبنان، وما زال البلد يعيش في ظل سرديّاتٍ متضاربةٍ لماضٍ لم يُحاسَب عليه أحد. ولأنّ لا عدالة انتقالية تحقّقت، ولا كشفًا كاملًا للحقيقة تمّ، باتت الحرب أداةً في يد من يُفترض أنّهم خرجوا منها. تُستدعى في كلّ حملةٍ انتخابيةٍ، لا لتفكيك أسبابها، بل لإعادة تدويرِها ضمن سياقات تعبئة طائفيّة أو تبريريّة. وهكذا، يتحوّل الحديث عن “المصالحة” إلى مجرّد عنوان استهلاكي، يخفي تحته بنية سياسية لا تزال تعتبر الحرب جزءًا من شرعيّتها، لا مأساة وطنية يجب الحذر من تكرارها.
لم تُطوَ صفحة الحرب في لبنان بمجرّد الدعوة إلى دقيقة صمت وطنية تحت شعار “منتذكّر سوا لنبني سوا”. ليس لأنّ الجراح أعمق من أن تلتئم، وليس بـ”استرجاع دروس يجب ألّا تُنسى”، بل لأن المنظومة السياسية التي ورثت تلك المرحلة لم تُرد يومًا طيّها فعليًا. فالذاكرة الجماعية بقيت رهينة الاصطفاف، والمصالحة ظلّت انتقائيةً، تُستحضر حين تستدعي الحاجة خطابًا شعبويًا أو تحالفًا انتخابيًا هشًّا، وتُغيّب حين يُطلب موقف فعلي لتسهيل انتظام عمل الدولة.
إفلاس القوى السياسية و”عقم” الكوادر الحزبية فرض استدعاء الحرب ومآسيها كلّما اقترب استحقاق انتخابي. فبدلًا من تقديم برامج سياسية واقتصادية جدّية تنتشل لبنان من جحيم الأزمات المتواصلة، تعود بعض القوى إلى تنشيط ذاكرة الانقسام والتحريض؛ والأسوأ، انزلاق النّاشطين والأحزاب التي لم تعِش ويْلات الحرب إلى بناء مشروعيّتها على خطاب “الرفض الهدّام” لا أكثر. الأمر الذي فرض تلقين روايات الحرب للطلّاب في الانتخابات الجامعيّة، وترسّخ في الانتخابات البلدية والاختيارية، وتضخّم في صناديق الاقتراع النيابية، ويُعاد إنتاجه عند كلّ استحقاقٍ رئاسيّ أو حكوميّ، وكأنّ البلاد محكومة بمنطق الحرب الدائمة، لا الدولة الدائمة.
إنّ التحدّي الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في كيفية التصالح مع الماضي وتنقية الذاكرة، بل في وقف استثمار مآسي الماضي وذكراها. فلبنان لا يحتاج إلى عفوٍ غير معلن، ولا إلى تكرار شعارات المصالحة بين حملة السلاح، وكأنّ مصالحة الجبل ومن قام بها غير أهلٍ لذلك، أو أنّ “أحادية” القرار بين الإخوة “أمل – حزب الله” مشكوك فيها. اللبنانيون بحاجة إلى مشروع وطني حديث يفصل الذاكرة عن السياسة، ويضع حدًّا لثقافة التوريث السياسي للانقسام والمتاجرة بدماء الشهداء وتضحياتهم.
وهنا تبرز الحاجة، بل الأهمّية، إلى الانخراط في مشروع بناء الدولة لتثبيت المصالحة وطيّ مآسي الحرب، على اعتبار أنّ المصالحة لا تكون بين زعامات أو طوائف، بل بيْن المواطن ودولته، بيْن المجتمع ومؤسّساته، بيْن الحقوق والواجبات. فلا عدالة بلا مؤسسات، ولا طيّ للصفحات من دون محاسبة، ولا استقرار من دون دولة تُشعِر الجميع بالأمان السياسي والاجتماعي.
ما يُميّز ذكرى 13 نيسان هذا العام، أنّ رؤية رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون تذهب مباشرةً إلى صلب هذه الإشكاليّة، من خلال دعوته الواضحة إلى بناء دولة المؤسّسات باعتبارها الإطار الوحيد القادر على احتواء الجميع، ووقف الانقسام، وتأمين الضمانة الفعلية لجميع اللبنانيين من دون تمييز. دولة لا تستنسخ النظام القديم، بل تُعيد تأسيسه على قواعد حديثة، تُعيد الاعتبار للمواطَنة لا للزعامة، للمصلحة الوطنية لا للطائفية السياسية.
اللبنانيون، وخصوصًا جيل الشباب، لا يطلبون مصالحةً شكليّةً، ولا ذاكرةً منقّحةً على قياس الأحزاب. ما يطمحون إليه هو العيش في دولةٍ تحترم كرامتهم، وتؤمّن مستقبلهم، وتمنحهم حقّ الانتماء إلى وطنٍ لا يُعرّف نفسه بالحرب، بل بمشروع حياة. لذا، فإنّ أي محاولة للمصالحة لا تنطلق من مشروع الدولة هي محاولة ناقصة، وربما مُضلّلة.
خمسون عامًا بعد الحرب، لا يزال السلام في لبنان هشًّا، لا لغياب التسويات، بل لغياب الدولة. ولعلّ الخطوة الأولى نحو مصالحةٍ حقيقيةٍ، هي أن تتوقّف القوى السياسية عن المتاجرة بالذّاكرة، وأن تبدأ بمصالحة جدية مع الفكرة الوحيدة القادرة على حماية الجميع: الدولة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() الانتخابات البلدية: تكريس النفوذ الحزبي وتجريد المواطن من القرار | ![]() منصات تهدّد لبنان: أيّ مستقبل ينتظرنا؟ | ![]() جنبلاط: من إرث الشهادة إلى صناعة المستقبل |