تعديلات “السرّية المصرفية”: خطورة المفعول الرجعي!

خاص 16 نيسان, 2025

وإذا كان رفع السرية المصرفية سيبقى محصورًا بمصرف لبنان ولجنة الرّقابة على المصارف، فإنّ ذلك يجب أن يتمّ مع التأكيد على التزام هؤلاء بعدم مشاركة أيّ مرجعٍ آخر أيًّا يكن بالمعلومات المصرفية التي يحصلان عليها، بحيث يلتزمان بالسرّ المصرفي فيما يتعلق بهذه المعلومات، مع معاقبةٍ صارمةٍ لكلّ إخلال بها، كما حصل منذ مدةٍ قريبةٍ حين كانت المعلومات التي تسلّم إلى أحد القضاة، تُنشر وتعمّم في اليوم التالي في وسائل التواصل الاجتماعي للمقرّبين.

خاص “هنا لبنان”

تناقش اللجان المشتركة مشروع قانون تعديل السرية المصرفية، فالصيغة التي أقرّتها الحكومة تخضع للبحث والتعديل في مجلس النواب ليكون التعديل موضع البحث، الذي أحيل من الحكومة إلى مجلس النواب بموجب المرسوم 103، هو الثاني في غضون ثلاث سنوات. ففي العام 2022، عُدِّلَ قانون السرية المصرفية، تماشيًا مع مطالب صندوق النقد، يومها رُفعت السرّية عن كل مَن يتعاطى الشأن العام، من رئيس الجمهورية وصولًا إلى موظفي الفئات الاولى والثانية والثالثة والرابعة. حكومة نوّاف سلام الحالية أقرّت المزيد من التعديلات على هذا القانون اعتُبرت في أسباب تعديل المادة السابعة، “أنّ القانون الحالي أوجد التباسًا في تفسير النّص، يمكن أن يكون النّص هدفًا إلى حصر صلاحية مصرف لبنان ولجنة الرّقابة في طلب المعلومات المحكومة بالسرّية المصرفية في إطار إعادة هيكلة المصارف فقط، وفي نهاية المطاف تبنّت الحكومة اقتراح رئيسة لجنة الرقابة على المصارف تاريخ 22 أيلول 2024 لناحية تعديل المادة 150 من قانون النّقد والتسليف وبمفعول رجعي”.

ففي تحليل للتعديلات المقترحة على قانون السرّية المصرفية، نجد أنّ جوهرها ينحصر في المادة 7 من القانون. فالمادة السابعة تلحظ إلزام المصارف بتقديم المعلومات المصرفيّة حول عملائِها بما فيها المعلومات الخاصة حول أسمائهم وحساباتهم وسائر الامور المتعلّقة بهم الى المكلّفين بإجراء تدقيق في حسابات المصرف غير مبرّر، إذْ لا علاقة بين حسابات المصرف وحسابات عملائه، ولا يجوز إطلاقًا الخلط بينهما. فالتدقيق في حسابات المصارف لا تستدعي التدقيق في حسابات زبائنها. فالتعديل المُقترح يهدف الى فتح المجال أمام الجهات المُشار اليها في الفقرة (هـ)، اي مصرف لبنان ولجنة الرقابة وأي طرف مكلّف بإجراء تدقيق في حسابات المصرف بالحصول على معلومات عامّة تتناول زبائن المصارف بما فيها أسماؤهم، وذلك بحجّة إعادة هيكلة المصارف وممارسة حقّ الرقابة. إلّا أنّ هذا التبرير لا يستقيم للسببيْن التالييْن:

– إنّ جميع مشاريع قانون إعادة هيكلة المصارف تضمّنت نصًا خاصًا يتضمّن رفع السرية المصرفية لأغراضها، فلا حاجة إذًا لإدراج هذا التبرير في التعديل المقترح الذي هو نصّ عام لأغراض عملية خاصة هي عملية إعادة الهيكلة، علمًا أنّ قانونها سيتضمن النص نفسه الذي سيكون أكثر ملاءمة لموضوع اعادة الهيكلة.

– أمّا التبرير المتعلق بأغراض الرقابة، فهو أيضًا لا يستقيم. فالقانون الحالي يفتح المجال امام مصرف لبنان ولجنة الرقابة بالاستحصال على جميع المعلومات التي تسمح لهما بممارسة رقابتهما على زبائن محدّدين، بما في ذلك الحصول على أسمائهم. امّا الرقابة العامة، فهي لا تستدعي عادة الاطلاع على أسماء الزبائن إلّا إذا كان الهدف ليس الرقابة بل محاولة تصيّد معلومات خاصة لغير الغرض الذي مُنحت من أجله.

ما يزيد الطين بلّة هو أنّ مشروع القانون ينصّ على رفع السرية المصرفية بمفعول رجعي على مجموعات غير محدّدة من زبائن المصارف، قد تشملهم جميعًا.

عادةً ينطوي المفعول الرجعي للقوانين على تهديد للاستقراريْن التشريعي والاجتماعي المعبّر عنهما ويا للسخرية في الأسباب الموجبة لهذا المشروع التعديلي، حتّى انّه، إذا تناول السرية المصرفية، فهو بات يهدّد أيضًا الحياة الخاصة والشخصيّة لزبائن المصارف خلافًا للاتجاه العالمي حيث سنّت مختلف بلدان العالم قوانين لحماية البيانات الشخصية للأفراد، بما فيها لبنان بموجب القانون 81/2018. كما يهدّد المشروع فتح المجال أمام ملاحقات جديدة بسبب أفعال قَبِلَهَا المشترع في السابق. فعلى سبيل المثال، إنّ رفع السرية بمفعول رجعي يفتح المجال أمام ملاحقة زبائن المصرف بسبب أفعال كان المشترع يغضّ النظر عنها (مثلًا المخالفات الضريبية المتعلقة بالحسابات المصرفية، لا سيما رسم الانتقال) والتي يأتي المشروع اليوم ليكشف النقاب عنها معرّضًا الزبائن أصحابها للخطر.

كما أنّ المفعول الرجعي يهدّد أيضًا الامن الاقتصادي، إذ يبعث برسالةٍ هامةٍ مفادها بأنّه لا يجب على الافراد أن يثقوا بالقانون اللبناني الذي يمنحهم حقوقًا اليوم، إذ قد يأتي يوم آخر يُصدر فيه مجلس النواب تشريعًا مع مفعولٍ رجعيّ، يهدّد فيه الحقوق التي اكتسبوها في السابق. فلبنان كان على مدى العصور ملجأً للمضطهدين خاصةً من الدول العربية، والذي جذب أموالهم بحجّة السرية المصرفية، فيأتي اليوم الذين يفاجَأون فيه بأنّ النقاب قد رُفع عن حساباتهم. مع العلم أنّ لبنان هو الوحيد في العالم الذي نصّ على رفع السرية المصرفية بصورة رجعيّة.

وإذا كان رفع السرية المصرفية سيبقى محصورًا بمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، فإنّ ذلك يجب أن يتمّ مع التأكيد على التزام هؤلاء بعدم مشاركة أيّ مرجعٍ آخر أيًّا يكن بالمعلومات المصرفية التي يحصلان عليها، بحيث يلتزمان بالسرّ المصرفي فيما يتعلق بهذه المعلومات، مع معاقبةٍ صارمةٍ لكلّ إخلال بها، كما حصل منذ مدةٍ قريبةٍ حين كانت المعلومات التي تسلّم الى أحد القضاة، تُنشر وتعمّم في اليوم التالي في وسائل التواصل الاجتماعي للمقرّبين. هذا وقد حاول القانون استدراك النتائج السلبية التي يعرفها نتيجة رفع السرّية بمفعول رجعي، فنصّ على الاعتراض أمام قاضي الأمور المستعجلة من قبل المتضرّرين منها. إلّا أنّ القانون لم يحدّد المعايير ولا الضوابط التي يجب أن يلتزم بها كلّ من مصرف لبنان ولجنة الرقابة، لكي يتمكّن قاضي العجلة من مراقبة حسن تطبيق القانون من قبلهما.

ومن هذه الضوابط، المبادئ والقواعد التالية:

– مبدأ شرعية الأسباب التي تُعتمد لإصدار مثل هذه القرارات العامة برفع السرّية، بحيث تكون القرارات مبرّرة بالمصلحة العامة والواجب ذكرها بالتفصيل في القرار، والتي يعود لقاضي الأمور المستعجلة أمر التحقّق منها تحت طائلة ابطالها.

– مبدأ التناسبيّة، بحيث تكون الغاية من شأنها أن تبرّر الوسيلة ضمن الحدود المطلوبة لتحقيق هذه الغاية، فترفع السرية بالمقدار الضروري للوصول الى الهدف الذي تبرّره المصلحة العامة، بحيث لا تُرفع السرية عن أسماء الزبائن مثلًا لتصيّد المعلومات او للانتقام السياسي، عندما يمكن الوصول الى الهدف من دون الكشف على أسماء الزبائن. كما أنّ التناسبية توجب حصرَ رفع السرية بالدائرة التي تحتاج الى المعلومات بهدف تحقيق مهمة مصلحة عامة، من دون تبادل المعلومات بينها خلافًا لما جاء في المشروع.

وأخيرًا، وحيث إنّ المشروع حصر المفعول الرجعي بمصرف لبنان ولجنة الرقابة، فإنّه يقتضي تعديل المادة الأخيرة من قانون سرية المصارف، بحيث تصبح على الشكل التالي: “يُعمل بهذا القانون فور نشره في الجريدة الرسمية، مع مراعاة المفعول الرّجعي المنصوص عنه في المادة 7 (و) المعدّلة”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us